على عتبة عيد الميلاد
البطريرك بيتسابالا
في الأيام التي سبقت بداية زمن المجيء، كانت إحدى قراءات القداس من سفر النبي دانيال. وجملة واحدة منها باستطاعتها مساعدتنا على الدخول في السر العظيم الذي يسرده نص البشارة في إنجيل اليوم (لوقا ١: ٢٦ – ٣٨).
يسرد الفصل الثاني من سفر النبي دانيال حلم الملك نبوخذ نصّر، الذي يرى تمثالاً عظيماً مرعبا، مصنوعا من مواد مختلفة. في لحظة ما في الحلم، ينفصل حجر صغير عن الجبل ويصيب التمثال على قدميْه ويسحقهما.
وتُبيّن الكلمة أن هذا الحجر الصغير ينفصل عن الجبل بشكل عجيب، “لا بقوة اليَدَين” (دانيال ٢: ٣٤). لاحقاً وبينما يفسر النبي دانيال الحلم للملك، يشير مجدداً إلى الأمر عينه: انفصال الحجر عن الجبل لم يتمّ “بقوة اليَدَين” (دانيال ٢: ٤٥).
كذلك مع مريم العذراء: يحدث لها أمر جديد وعظيم، ويحدث بالتحديد دون تدخل إنسان.
إن الله ذاته هو من يتدخل في التاريخ وفي حياة هذه الفتاة الناصرية المتواضعة، محققاً بذلك أمراً جديداً: عهدا جديدا وأعجوبة جديدة وخلاصا جديدا، يتمثل في حضور الله وتجسّده وعيشه بيننا.
قبل الوقوع في الخطيئة، سمح الإنسان لله أن يتدخل بحرية في تاريخه وأن يكون سيد حياته وخالقها. وقد جاءت الخطيئة للتقليل من شأن هذه الديناميكية، فاختار الإنسان أن يدير وجوده من دون تدخل الله: على عكس مخطط الله.
لكن ما يقوم به الإنسان بهذا الشكل سينهار عاجلاً أم آجلاً كالتمثال في حلم نبوخذ نصّر. أما ما يأتي من الله فيبقى إلى الأبد.
لم يكن ممكنا لهذا الأمر الجديد، أي لهذا الخلاص أن يتحقق من دون شرطين: أن يتدخل الله مجدداً وأن يسمح الإنسان لله أن يقوم بذلك مرة أخرى.
لم يكن العهد القديم سوى بحثا وانتظارا لهذا الحدث: يبني الإنسان هيكلاً ثم ينتظر ويصلي ليبادر الرب ويسكن فيه.
إلا أن الله يقوم بأكثر من ذلك في حالة العذراء مريم: يأتي الله ليسكن في هيكل لم تصنعه أيدٍي بشرية. إنه يسكن كذلك في هيكل مكوّن منا نحن البشر أي في حياتنا وأجسادنا. كما ولا يأتي في سحابة كعلامة لحضوره بين البشر بل يأتي بنفسه.
إن لمريم دوراً هاماً وفاعلاً في هذا الأمر: بوسعنا القول أنها تترك لنا علامتين:
العلامة الأولى هي الإيمان بأن ما من شيء يُعجز الله (لوقا ١: ٣٧). الإيمان هو التصديق بأن يد الله الخفية لا زالت تعمل حيث لا يصل الإنسان: يأتي ليخلق حياة في بطن أليصابات العاقر (١: ٣٦)، وفي بطن مريم التي لا تعرف رجلاً (لوقا ١: ٣٤).
الإيمان هو البقاء في هذا الاتكال على نعمة الله، من دون أن نتصرف لوحدنا أو نبحث عن مخرج.
تقوم مريم بهذا الأمر من خلال السؤال والبحث والحوار: يعمل الله بدون تدخل يد الإنسان ولكن ليس بدون موافقة الإنسان. لا تتجاوز يد الله حرية الخليقة بل يطلب الإذن منها. فهو لا يدخل إلا بعد قبول الإنسان: “فليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ” (لوقا ١: ٣٧). الإيمان إذاً هو الإصغاء والترحيب والثقة وتقدمة الذات.
أما العلامة الثانية التي نتعلّمها من مريم العذراء فهي قبول الدخول في زمن المخاض، زمن الصبر والصمت والخفاء والانتظار.
إن أعمال الإنسان تُنجز في وقت قصير أما أعمال الله فتحتاج إلى وقت أطول وتحدث تدريجياً، لأن كل ما هو جديد لا يلد إلا بعد مخاض طويل.
يعيش الإنسان وقته بشكل متسرع بينما يمتدّ وقت الله على فترات طويلة: يحفر الله بعمق ويضع أساسات عميقة. إنه وقت يمتد على جميع الفصول الضرورية حتى تُخرِجَ البذور الثمار.
بوسعنا القول أن فترة حَبَلِ مريم رافقها الصبر والإيمان والصمت والاصغاء والصلاة والسير. وقد مكّن ذلك مريم من رؤية الأماكن والأحداث التي حولها حيثما قامت يد الله بعمل شيء جديد: في حياة نسيبتها أليصابات (لوقا ١: ٣٩– ٤٥)، وفي حياة خطيبها يوسف (متى ١: ١٨– ٢٥).
قد نعتقد أن إنجيل البشارة هو إنجيل بعيد عن حياتنا وعظيم جداً بالقياس إلى حياتنا المتواضعة. هذا ليس صحيحاً. إن ديناميكية هذا الحدث، ديناميكية الله الذي يتوق إلى التدخل في حياة الإنسان، سائلاً إيانا أن نسمح له بذلك ومن دون وجود عوائق كثيرة، هي ديناميكية الإيمان وحياتنا اليومية مع الله.
حيثما يحدث هذا الأمر، تعود الحياة تماماً كالطفل في بطن مريم، وكالحياة القائمة من القبر. وفي موت يسوع وقيامته تمّت المعادلة. عن يد الإنسان نتج الموت، وعن يد الله تمّ استرجاع الحياة. وهذا ما حصل!
على عتبة عيد الميلاد، أُعْطِينا –لا بقوة الذراع بل بقوة الله– النعمة بأن تتجدد هذه الأمور في حياتنا.
+ بييرباتيستا