عيد الصعود
البطريرك بيتسابالا
يبدأ القديس مرقس إنجيله برسالة خلاص يُعلن فيها للجميع عن اقتراب ملكوت الله (مرقس ١: ١٤– ١٥).
نرى في الإنجيل بعد ذلك كيف يصبح هذا الإعلان، في يسوع، قصة حياة. يدنو يسوع من الجميع ويمنح حبه بقوة ويدخل بيوت الناس وينضم إليهم في حياتهم اليومية ويشفيهم من العزلة ويُخلّصهم من ابتعادهم عن الله ويُقيم علاقة معهم.
بعد ذلك يُسَلَّم يسوع إلى الموت، ولكن الموت لا ينجح في إطفاء الأمل الذي ينيره الملكوت القريب. على العكس تماماً، فالقائم من بين الأموات حاضر وقريب أكثر من قبل ويمكن أن نكون على علاقة أبدية معه رغم وجودنا في الزمان والمكان.
ينتهي إنجيل القديس مرقس بالمقطع الذي سمعناه اليوم (مرقس ١٦: ١٥– ٢٠): رحيل يسوع وعودته إلى الآب. ولكن كيف تتوافق بداية الإنجيل مع نهايته؟ كيف يقترب ملكوت الله في حين أن الرب يرحل عن الأرض ويعود إلى المجد؟ هل ما زال ملكوت الله قريبا؟ كيف ذلك؟
في الواقع، إن ملكوت الله يتحقّق في اللحظة التي يعود فيها يسوع إلى الآب، لأنه حينها سيتم الخبر السار وهو أن العودة إلى الآب هي أيضاً غايتنا وطريقنا.
لم يأت يسوع بيننا ليعطينا منهاج حياة جديدة فحسب، بل كي يكتشف منهاج الحياة المذكور الهدف الذي من أجله نشأ، ألا وهو العودة إلى الآب.
وعليه، فإن الصعود ليس السر الأخير لحياة يسوع على هذه الأرض فحسب بل هو سر حياتنا أيضاً، وهو الصورة التي تخبر بحقيقتنا وهو أننا خلقنا من أجل هذا الصعود والعودة إلى دار الآب. تتوق الخليقة كلها إلى هذه العودة. والإنسان يعي هذا الهدف والطريق إليه.
وعليه، فإن عودة يسوع إلى الآب تمثّل تعليمه الأخير وعرضه النهائي للحياة الجديدة. ليس من المقدر لنا أن نعيش حياة جميلة وجديدة هنا فحسب، حياة محصورة في حدود الزمان والمكان. إننا مدعوون من الآن فصاعداً إلى العيش في أماكن وأزمنة أخرى، وأن نكون حاضرين في الله، وأن يكون الله حاضراً فينا.
الخبر السار هو أن الأرض قد أصبحت درب هذه المسيرة، ولم تعد بعد الآن عقبة يجب تجنبها أو التغلب عليها، ولا وقتاً يضيع ونحن نبحث خلاله عن الحقيقة. الأرض تصبح بشكل غامض أحشاء الأبدية وفرصتها منذ الآن. تصبح كذلك عندما ننتصر على تجربة الانغلاق على أنفسنا وننطلق إلى حركة صعود وتقدمة الذات للآب. هذا هو الصعود الذي نحن مدعوون إليه.
وعلى هذه التقدمة يحطّ الآب أنظاره وينزل روحه مما يجعل الحياة استباقا الأبدية.
يرجع يسوع إلى الآب إلا أنه يبقى بيننا وهنا، حيث نبدأ بالتفكير بوجوده في هذا المنهاج الجديد والحركة الجديدة للحياة.
لكن يسوع يمكث على الأرض بطريقة أخرى، يمكث بين تلاميذه وداخل كنيسته، المدعوة لكي تعيش وتفعل ما كان يقوم به، وأن تكون هي ملكوت الله القريب. لهذا السبب على التلاميذ “الذهاب في العالم” وإعلان البشارة “إلى الخلق أجمعين” (مرقس ١٦: ١٥).
ليس عليهم أن يقوموا بأمور عديدة، ولا أن يحققوا أعمالاً مدهشة.
ما عليهم القيام به هو أن “يؤمنوا” (مرقس ١٦: ١٧) وحينها سوف يرون أن حياتهم ستبرز حضور الرب: “الرَّبُّ يَعمَل مَعَهم ويُؤيّدُ كَلِمَتَه بِما يَصحَبُها مِنَ الآيات” (مرقس ١٦: ٢٠). لن يكونوا هم الذين يجترحون الآيات بل الآيات نفسها هي التي سترافق إيمانهم: هم أنفسهم سيكونون آية للآخرين.
سوف يكونون آية للمسيح، أي لانتصار الخير على الشر، والحياة على الموت. سوف يكونون آية للحياة.
من المثير للاهتمام أن الآيات الانجيلية التي تسبق تلك التي قرأناها اليوم تتكلم ثلاث مرات عن عدم إيمان التلاميذ (مرقس ١٦: ١١، ١٣، ١٤). إن أولئك الذين أُرسلوا لإعلان البشارة للعالم كله (مرقس ١٦: ١٥)، والذين يعتمد عليهم خلاص الكثيرين (مرقس ١٦: ١٦) هم في المقام الأول عديمو الإيمان وقساة القلوب (مرقس ١٦: ١٤).
وهذا بالضبط ما يُعطي الأمل: أولئك فقط الذين اختبروا عدم الإيمان والانغلاق على أنفسهم واقتنعوا أن ملكوت الله هو نعمة مجانية، اولئك وحدهم يستطيعون نقل وحمل الملكوت لإخوانهم.
إن ملكوت الله يقترب ليس فقط في الاعتداد بالذات الذي يتصف به من لم يعرف الشك أبداً، بل في وداعة وكلام الانسان الذي يسمح في أن تغيره قوة الإنجيل.