في صعود الرَّبِّ القديس لاون الكبير البابا (461†)
آباء الكنيسة
إنَّ صعودَ الرَّبَّ يَزيدً إيمانَنا
كانَت الإِحتفالاتُ الفصحيّةُ بقيامةِ الرَّبِّ المجيدةِ مصدرَ فرحٍ لنا. كذلك صعودُه إلى السماءِ هو سببُ فرحٍ عظيمٍ لنا اليومَ، إذ نذكُرُ ونُكرِّمُ ذاكَ النهارَ الذي فيه رُفِعَتْ طبيعتُنا البشريّةُ مع المسيحِ إلى اللهِ الآبِ، فوقَ كلِّ الكائناتِ السماويَّةِ، وجميعِ رُتَبِ الملائكة، وفوقَ كلِّ رفعةٍ وقدرة. لقد تأسَّسْنا وبُنِينا على تدبيرٍ من الأعمالِ الإلهيَّةِ، وزادَتْ نعمةُ الله تألُّقًا لمَّا زالَتِ الأسرارُ الخافيةُ على عيونِ البَشَر، والتي كانَتْ توحي بالإكرامِ والمهابة، ومع ذلك لم يضعُفْ الإيمان، ولا نَقَصَ الرَّجاء، ولا فتَرَتِ المحبَّةُ.
هذِه هي قوّةُ العقولِ الكبيرةِ، ونورُ النُّفوسِ الأمينةِ الصَّامِدة، أن تؤمنَ إيمانًا لا يتزعزعُ بما لا يقعُ تحتَ الحواسّ، وأن تُثَبِّتَ رجاءها حيث لا يبلغُ نظرُ الإنسان. وإِلاَّ فكيف يمكنُ أن تَنشَأَ التقوى في قلوبِنا، وكيف يمكنُ أن يُبَرَّرَ الإنسانُ بالإيمان، إنْ كانَتْ شؤونُ خلاصِنا كلُّها محصورةً في ما يقعُ تحتَ حواسِّنا؟
ما كانَ منظورًا من أعمالِ الفادي صارَ في الأسرارِ علامةً وأداةً للنعمة. وحلَّ التعليمُ محلَ الرؤيةِ الحسّيةِ ليزدادَ الإيمانُ نقاءً وثباتًا، فخضعَتْ لسلطانِه قلوبُ المؤمنين المستنيرةُ بأشعّةِ النورِ العُلَوِيِّ.
هذا الإيمانُ الذي ٱزدادَ وتَقَوَّى بعدَ صعودِ الرَّبّ، بموهبةِ الرُّوحِ القُدُس، لم يتداعَ ولم يضعُفْ أمامَ القيودِ والسجونِ والمنفى، ولا أمامَ النارِ والوحوشِ المفترسة، ولا أمامَ المضطهدِين وفنونِ العذاباتِ وقَسْوَتِها. ولقد جاهدَ في سبيلِ هذا الإيمانِ حتى سفكِ الدماء، في العالمِ كلِّه، ليسَ الرجالُ فقط بل والنساءُ أيضًا، ليس الشبَّانُ فقط بل والعذارَى الفتِيَّات. هذا الإيمانُ أخرجَ الشياطين، وأبرأَ الأمراضَ، وأقامَ الموتى.
فإنَّ الرُّسلَ أنفسَهم الذينَ ثَبَّتَهُم الرَّبُّ بالكثيِر من الآياتِ وعلَّمَهم بالكثيرِ من العِظات، خافوا وٱرتعبوا أمامَ آلامِ الرَّبّ، وقبِلوا بتردُّدٍ حقيقةَ القيامة. بالصعودِ فقط تحوّلوا، فما كانَ يُوحي إليهم بالخوفِ سابقًا تحوَّلَ الآن إلى فَرَح. الآن حدَّدوا نظرَهم وكاملَ تأمُّلِهم في أُلوهِيَّةِ الإِبنِ الجالسِ عن يمينِ الآبِ. لم تعُدْ رؤيةُ جسدِه الحِسِّيِّ حاجزًا أمامَهم: بل حدَّدوا نظرَ ذهنِهم وعقلِهم في من نزَلَ من عندِ الآبِ من غيرِ أن يُغادرَه، وٱرتفعَ عن التلاميذِ من غيرِ أن يفارقَهم.
الآنَ فقط، أَيُّها الأَحِبَّاء، عرَفْنا ٱبنَ الإنسانِ وٱبنَ الله معرفةً أعمقَ وأقربَ إلى القداسة، لمّا عادَ إلى مجدِ جلالِ أَبيه، حيثُ أَصبحَ بصورةٍ تجِلُّ عن الوَصفِ أقربَ إلينا بلاهوتِه بعدَ أن صارَ أبعدَ عنّا بناسوتِه.
الآنَ فقط ٱزدادَ الإيمانُ نورًا وقوّةً وٱستطاعَ أن يَدنُوَ من الإِبنِ المساوِي للآب. ولم يعُدْ بحاجةٍ إلى رؤيةِ الجسدِ في المسيح، والجَسَدُ فيه حاجِزٌ دونَ رؤيةِ الآب. بقِيَتْ الطبيعةُ الإنسانيةُ مع الجسدِ الممجَّدِ، إِلاَّ أَنَّ إيمانَ المؤمنين مدعُوٌّ الآن، لا عن طريقِ الحِسِّ بل بإِدراكِ الرُّوحِ، أن يَلمِسَ الإِبنَ المُساوِيَ لأَبيه.
البابا فرنسيس والصعود : بصعوده لم يفترق يسوع عنا بل بقي معنا تحت شكل جديد
في كلمته قبيل صلاة افرحي يا ملكة السماء
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، صباح الخير
يحتفل اليوم في ايطاليا وفي البلدان الأخرى بعيد صعود يسوع الى السماء الذي تم بعد أربعين يومًا من الفصح. يخبرنا كتاب اعمال الرسل عن هذا الحدث، يسوع يفترق نهائيًا عن تلاميذه وعن هذا العالم (أعمال الرسل 1، 2. 9). من ناحية أخرى يخبرنا إنجيل متى عن وصية يسوع لتلاميذه: هو يدعوهم أن يذهبوا، أن ينطلقوا لإعلان رسالة الخلاص الى كل الشعوب (راجع متى 28، 16-20). “إذهبوا”، أو بالأحرى “انطلقوا” أصبحت الكلمة المفتاح لاحتفال اليوم: جزء من الآب ومن يسوع يأمر التلاميذ بالذهاب في العالم.
صعد جزء من يسوع الى السماء، أي عاد الى الآب الى من أرسله الى العالم. لقد أنجز عمله ومن ثم عاد الى الآب. ولكن هذا ليس افتراقًا، لأنه يبقى معنا الى الأبد تحت شكل جديد. بصعوده جذب الرب القائم من الموت أنظار الرسل وحتى أنظارنا الى أعالي السماوات ليرينا بأن هدف مسيرتنا هو الآب. هو بنفسه قال بأنه ذاهب ليعد لنا مكانا في السماء. بالتالي، يبقى يسوع حاضرًا وفاعلا في أعمال التاريخ البشري بقدرة روحه ومواهبه، فهو قريب من كل واحد منا: حتى ولو لم تروه بعيونكم هو هنا! هو يرافقنا ويرشدنا، يأخذنا بيدنا ويرفعنا حين نقع. يسوع القائم من الموت قريب من المسيحيين المضطهدين والمهمشين وهو قريب من كل رجل يعاني ومن كل امرأة تعاني. هو قريب من كل واحد منا، واليوم أيضًا هو معنا في الساحة. الرب معنا! هل تصدقون؟ إذًا فلنقل معًا: الرب معنا!
حين صعد يسوع الى السماء، حمل معه هدية الى الآب. وما هي تلك الهدية؟ جراحاته. جسده جميل لا توجد عليه أي كدمات بل توجد عليه الجراحات. حين عاد الى أبيه أراه جراحاته وقال له: “انظر أيها الآب، هذا هو ثمن الخلاص الذي أعطيتموه.” حين ينظر الآب الى جراحات يسوع يغفر لنا باستمرار، ليس لأننا طيبين بل لأن يسوع دفع الثمن عنا. حين ينظر الآب الى جراحات يسوع يصبح أكثر رحمة. هذا هو عمل يسوع اليوم في السماء، أن يظهر جراحاته، ثمن الخلاص، الى الآب. إنه لشيء جميل، شيء يدفعنا لطلب المغفرة من دون خوف. الآب يغفر دائما لأنه ينحني على جراحات يسوع وينظر الى خطايانا ويغفرها.
ولكن يسوع حاضر أيضًا من خلال الكنيسة، التي أرسلها لكي تستكمل رسالته. آخر كلمات يسوع لتلاميذه كانت وصية الإنطلاق: “إذهبوا وتلمذوا كل الأمم” (متى 28، 19). هي وصية واضحة وليست اختيارية! الجماعة المسيحية هي جماعة خروج وانطلاق. الكنيسة ولدت في الخارج. ستقولون لي: والجماعات المحصنة؟ نعم هي أيضًا، لأنها في خروج دائم بواسطة الصلاة والقلب المنفتح على العالم، وعلى آفاق الله. ماذا عن المسنين والمرضى؟ هم أيضًا، من خلال الصلاة والاتحاد بجراحات يسوع.
قال يسوع لتلاميذه المرسلين: “ها أن معكم كل الأيام الى انقضاء الدهر” (الآية 20). نحن وحدنا من دون يسوع لا يمكننا فعل أي شيء! ففي العمل الرسولي لا تكفي قوتنا ومواردنا حتى ولو كانت ضرورية. فمن دون حضور الرب وقوة روحه، حتى ولو كان عملنا منظمًا لن ينجح. إذًا فلنخرج ونعلن الى العالم من هو يسوع.
مع يسوع ترافقنا أيضًا مريم أمنا، هي في بيت الآب، وهي ملكة السماء كما ندعوها في هذا الزمن، وهي معنا كما يسوع، تسير معنا، وهي أم رجائنا.