لملكوت السماوات منطق خاصّ به
البطريرك بيتسابالا
لملكوت السماوات منطق خاصّ به، ولا يتطابق مع المعايير الطبيعيّة للإنسان القديم.
إنّه منطق جديدٌ، ينبغي اكتشافه دائماً، ويعطى لنا كهبة من الله، ويتوجّب إعادة تقبّله باستمرار. يُفاجئنا ويُذهلنا في كلّ مرّة، وعندما نتقبّله، يجعلنا أكثر إنسانيّة، وأكثر صدقا، وأكثر أخوّة بعضنا مع بعض.
إنّ أمثال الملكوت، الّتي نجدها في الفصل الثالث عشر لبشارة متّى، هي عبارة عن مُختصر لهذه الحكمة. نقرأ اليوم ثلاثة منها: مثل القمح والزؤان (متّى ١٣، ٢٤-٣٠) وشرحه (متّى ١٣، ٣٦-٤٣)، ومثل حبّة الخردل الّتي تنمو وتصبح شجرة (متّى ١٣، ٣٢)، ومثل الخميرة في الدقيق (متّى ١٣، ٣٣).
يُشبّه يسوع الملكوت أوّلاً بالحقل، حيث ينمو القمح الجيّد ومعه ينمو الزؤان.
وهذا يُذهلنا بالفعل: ألا ينبغي أن يكون الملكوت مكان الصالحين، والأبرار، والكاملين دون سواهم؟
هذا هو مغزى الأسئلة الّتي وجّهها الخدم إلى سيّدهم (متّى 13، 27): ما سبب وجود الزؤان، ومن أين يأتي؟ ألا ينبغي أن يكون كلّ ما لك، وكلّ ما يأتي منك نظيفا، وصحيحاً ومُستثنى من الشرّ؟
كلاّ، يُجيب صاحب الحقل. ويبدو أنّه الوحيد الّذي يعلم بالعمل الليلي للعدوّ، الّذي زرع الزؤان، ومن ثمّ غادر، دون أن يترك أيّ أثر (متّى 13، 25).
غير أنّ صاحب الحقل لا يتوقف مُطوّلاً عند هذا السؤال. بل يردّ بإسهاب على الخدم الّذين أرادوا أن يتمّ على الفور اقتلاع هذه ألأعشاب الضارّة، التي تبدو، في نظرهم، أنّها تُهدّد المحصول.
لا يبدو صاحب الحقل في عجلة من أمره.
لماذا؟
أوّلاً، لأنّه لا يخاف من الشرّ: لقد أدانه فعليّاً وانتصر عليه، وهو يعرف بأنّه قهره جذريّا. وحيث أنّه لا خوف لديه، فهو ليس في عجلة من أمره.
إنّ الصليب هو المكان الذي فيه تمّ فيه الانتصار على الشرّ. ولا يُمكن أن يخاف منه كلُّ من وُلد من جديد من الصليب.
إضافة إلى ذلك، إنّ الدينونة الأخيرة ليست الآن ولا هنا. الزمن والتاريخ ليسا مكان الدينونة، بل هما حيز مفتوح على المستقبل وإمكاناته المتعددة. التاريخ هو زمن صبر الربّ، ويتيح لكلّ شخص فرصة الإرتداد إلى الخير، والعودة إلى الآب.
ليس الربّ في عجلة من أمره، لأنّه ينتظر الجميع، ويضع في تاريخنا تلك القوّة الحقيقيّة الوحيدة الّتي تُخلّص الجميع، الأخيار والأشرار، وهي بالنسبة للجميع إمكانيّة الإرتداد: للبعض الارتداد عن الشرّ، وللآخرين الخلاص من خوفهم من الشرّ.
إنّ الدينونة ليست الآن، وليست هنا، وهي، في المقام الأوّل، ليست من شأن الإنسان: إنّ الإنسان الّذي يعيش في الزمن، لا يمكن أن يكون لديه سوى دينونة “مرحليّة“، لا ترى المخطّط النهائي للتاريخ، بل فقط جزءا منه في الوقت الحاضر. ولهذا السبب لا يمكنه أن يعرف، على وجه اليقين، ما هو في الواقع شرّ وما هو ليس كذلك. وما يبدو قمحاً يمكن أن يكون في نهاية المطاف زؤانا. والعكس صحيح.
ومع ذلك فإنّ الربّ يعرف حقّاً قلب كلّ إنسان، ويعلم نواياه ويقود العالم بصبر. وصبره هذا هو نعمة للجميع: للزؤان، الذي لديه الإمكانيّة، أثناء نموّه، بأن يتحول قمحا: وللقمح أيضاً إذ يتعلّم يوماً بعد يوم، من خلال اتّصاله بالزؤان، أن يتّخذ معايير حياتيّة جديدة، وأن يكون موضع ترحيب، وأن يربح ثقة الآخرين، وأن يسعد لتوبة الآخرين، وأن يتمنّى الخير للجميع، وأن يُعطي الشهادة، وأن يُقدّم الحياة. وهكذا فإنّ القمح، جنباً إلى جنب مع الزؤان، يمكنه أن يُصبح قمحاً أفضل، تماماً كما هو الحال في محن الحياة حيث لدى كلّ إنسان إمكانيّة النضوج في الخير، وأن يُصبح إنساناً جديداً.
إنّ فكرة تواجد الزؤان إلى جانبنا شيء مُخيف حقّاً، وينتج عن هذا الخوف الرغبة في القضاء على الآخر. إن عدم إحقاق الحقّ على الفورً، وعدم القضاء على الشرّ على الفور، يبقيان حجر عثرة بالنسبة لنا.
تتحدّث هذه الأمثال عن الترقّب والانتظار. ينتظر الفلاّح الحصاد، ويلاحظ بخييبة أمل نموّ الزؤان جنباً إلى جنب مع القمح. وطيور السماء تنتظر أن تُصبح حبّة الخردل شجرة كي تحتمي بين أوراقها. والمرأة الّتي تعجن تنتظر أن تجعل الخميرة العجين يكبر بشكل خفيّ، وهلمّ جرّا. هكذا هو الملكوت. إنّ الإنتظار أمر صعب بالنسبة لنا. نحن، مثل العمّال في المثل، نريد وضع الأمور في مكانها على الفور، واقتلاع الشرّ والزؤان، وأن نجعل العدالة تسود. ولكن يُقال لنا هنا أنّ علينا الانتظار.
يدعونا الربّ إلى البقاء داخل الحياة كما هي، بتناقضاتها وبما تحمله من الشرّ. وهو، ببساطة، يحرّك أنظارنا: فإذا عرفنا أن ننظر بشكل أفضل، دون خوف ودون تسرّع، فسوف نكتشف أنّ الملكوت موجود بالفعل في الحياة، تماماً كما هي.
الملكوت خفيّ، كالخميرة في الطحين (متّى 13، 33)، وهو صغير كحبّة الخردل (متّى 13، 31-32)؛ ولكنّه موجود حقّاً. يُخمّر كلّ العجين، ويمكنه أن يُصبح رافعة أمل لأولئك الّذين ينتظرونه.
تراودنا التجربة بأن ننظر إلى الزؤان الخارجي بدلا من أن ننظر إلى حياتنا ذاتها، إلى الزؤان الّذي يسكن فينا، والذي يمكن أن يتحول بقدرة قادر إلى طاقة جديدة من الخير بقوة النعمة والخير التي تعمل فينا.
+ بييرباتيستا