نعمة الحكمة ونعمة الاختيار مع الاختبار
الأب بيتر مدروس
إذا أخذ المرء نصّ سِفر الملوك الأوّل (الذي هو الثالث حسب تقسيم الترجمة السبعينيّة)، في الفصل الثالث ( 5 – 12) يقرأ أنّ سليمان الملك طلب من الله الحكمة. وكم يبدو هذا التصرّف بعيداً عن واقع أليم نعيشه في أنحاء كثيرة من العالم ومن الشرق الأوسط حيث يتمنّى المرء حكمة عند أصحاب “الحُكم” وحيث يجد أنّ عدداً منهم – بخلاف سليمان – لا يقنعون بل يطلبون الماديّات من الدنيا ومتاعها بشكل مفرط في حين تتضوّر شعوبهم جوعاً وعِوَزا.
سليمان الحكيم المتواضع
عرف سليمان – والاسم في العربيّة مُستمدّ من اليونانيّة “سلومون” لا من العبريّة “شلومو”- عرف قدر نفسه” وأدرك أنّه “غلام صغير السّنّ”، وخاف أن يتمّ فيه القول: “الدنيا خربت لانّ حاكمها ولد”، المطابق لحكمتنا الشعبيّة العربيّة الأصيلة: “الولد ولد ولو قاضي بلد”!
سليمان صانع السلام
تميّز سليمان – واسمه على جسمه أي “المسالم ” – بالسلام وما رفع سيفاً ولا رمحا . وأقام العهود مع سائر الشعوب واستفاد من علم الكتبة وحكمة الحكماء. واستعان بإلمام “حيرام” – ابن ملك صور وأرملة يهوديّة – لبناء الهيكل.
ويحمل سفر الأمثال اسم سليمان الحكيم الذي اشتهر بفطنته. وفي السبعينيّة في اليونانيّة سِفر “حكمة سليمان” وهو قريب جدّاً من سموّ فكر العهد الجديد خصوصاً في كتاباته عن حكمة الله الأزليّة التي هي شعاع مجده وصورة جوهره (أيضا عبرانيين 1: 1 وتابع) وعن رحمته تعالى وعنايته بكلّ الناس – بخلاف نظرية أرسطوطاليس الذي كان يعتقد أنّ الخالق (“ديميورغوس”) أسمى من أن يُعنى بخلائقه أي أنّ عنايته بالخليقة غير خليقة بجلاله!
نعمة الدعوة والاختيار والصلاح
وعندما يطالع المرء رسالة القديس بولس إلى أهل رومة (8: 28 – 30) يرى أنّ الله دعا المختارين بسابق تدبيره واختياره ليكونوا على مثال السيد المسيح. وهنا يتساءل المرء: طالما أنّ الله اختارهم وأعدّهم مًسبقاً، فلا خيار لهم ولا حرّيّة، ولماذا اصطفاهم هم وما اختار سواهم ؟
يجب أن يقرأ المرء الكتاب المقدّس كلّه وأن يضع الآيات في سياق كلمة الله المُلهمة بأكملها بحيث تكمل الصورة. نلحظ أوّلاً أنّ “الله لا يريد موت الخاطىء” وأنّ “النار الأبديّة” ما عُدَّت ولا هُيئَت للناس على الاطلاق. ارادة الله – يكتب رسول الأمم القديس بولس – هي تقديس نفوسكم . “الله يريد أن يخلص جميع الناس ويبلغوا معرفة الحق” ( تيموثاوس الاولى 2: 1 وتابع). ومثل الحكمة التي “تحبّ الذين يحبّونها” – إذا جاز التعبير – يختار الله الذين يختارونه، مع أنّه تعالى يحبّ الكلّ ويُعنى بالكلّ ولكنّه لا يفرض محبّته على الذين يرفضونها ولا طاعته على العصاة. وفي الدينونة يبدو جليّاً دور الانسان وحرّيته في تتميم وصايا الله أم في نبذها، في المحبّة للقريب أم في احتقاره وإهماله وإغفاله وإهانته.
خاتمة : الحكمة والنعمة والحرّيّة والنّقمة
لا تعني “الحرّيّة” انفلاتاً ولا إباحيّة بل تعني فعل الخير عن رضى لا إكراه والمحبة لله وللقريب عن حسن خاطر “بصدر مشروح ونفس راضية”، ونحن نشكر لله رحمته ونعمته ونسأله الرضى والبركة، عالمين أنّ “جميع الأشياء تعمل لخير الّذين يحبّون الله”!