يسوع يغفر خطايا مقعد في كفرناحوم ويشفيه (مرقس 2: 1–12)

الأب لويس حزبون

يقدم انجيل مرقس اول خمسة جدالات يصف فيها مقاومة الكتبة والفريسيين التصاعدية لرسالة يسوع وهويته؛ تدور هذه جدالات حول مغفرة خطايا الرجل المعقد (مرقس 2: 1-12)، واستقبال العشّارين والخطأة وتناول الطعام معهم (مرقس 2: 13 -17)، وحول الصّوم (مرقس 2: 18 -22)، وحول يوم السبت (مرقس 2: 23 -28؛ 3/ 1 -6). فمن خلال المجادلة الأولى، يُظهر يسوع حقيقة هويّته وصحّة تعليمه ومصدره الإلهيّ؛ انه صاحب سلطان غفران الخطايا تجاه المقعد وتجاه الكتبة وتجاهنا نحن الخطأة. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

أولاً: وقائع النص الانجيلي (مرقس 2: 1–12)

1 وعادَ بَعدَ بِضعَةِ أَيَّامٍ إِلى كَفَرناحوم، فسَمِعَ النَّاسُ أَنَّهُ في البَيت:

تشير عبارة ” وعادَ بَعدَ بِضعَةِ أَيَّامٍ ” باليونانية εἰσελθὼν πάλιν (معناها دخل من جديد) الى عودة يسوع الى كفرناحوم بعد خروجه إلى القرى المجاورة، وهو يكرز في مجامعهم ويطرد الشياطين. وبعدما شفى الأبرص (مرقس 1: 40-45) وتابع عمله في أماكن عديدة، ها هو يعود إلى كفرناحوم. أمَّا عبارة ” كَفَرناحوم” فتشير الى مدينة يسوع حيث اختارها يسوع لتكون مركزا لخدمته في بداية حياته العلنية. فعلم في مجمعها، وفيها دفع الجزية (متى 17: 24-27)، يرى القديس أوغسطينوس “أن كفرناحوم أشبه بعاصمة الجليل، وقد حسب السيد المسيح الجليل ككل مدينته أو وطنه الخاص”. فكانت كفرناحوم المدينة الأولى، التي يُظهرُ فيها يسوعُ قدرتَه، في التعليم وفي طرد الأرواح النّجسة، وفي شفاء المرضى، وذلك في برنامج أوّل يوم سبت (مرقس 1: 21-34). وكانت مدينة كثيفة السكان وغنية بسبب صيد السمك والتجارة وكان بها حامية رومانية لحفظ السلام والنظام في المنطقة. ولم يُحدِّد متى الإنجيلي المدينة ليقول إن ما فعله يسوع في الماضي، يفعله اليوم في كل مدينة تقيم فيها الجماعة المسيحية. أمَّا عبارة ” فسَمِعَ النَّاسُ ” فتشير الى دخول يسوع المدينة سرًّا، وخروجه منها (مرقس 1: 35). أمَّا عبارة ” البَيت ” فتشير الى “بَيتِ سِمعانَ وأَندَراوس”، حيث يجد يسوع نفسه في بيته حيث شفى يسوع حماة بطرس (مرقس 1: 29). وصار هذا البيت بمثابة مركز ليسوع في أثناء اقامته في الجليل (مرقس 2: 1، 3: 19و9: 33). ثم أصبح بيت – كنيسة، موضع اجتماع المسيحيين الاولين (1 قورنتس 11: 34)، في ايامنا الحاضرة تحوّل الى كنيسة عظيمة على شكل قارب. ولكن مفهوم “البيت ” اتخذ في الجماعة المسيحية الأولى دلالة كنسيّة حيث كانت الكنيسة تجتمع في البيت لتأمّل الكلمة ولكسر الخبز.

2 فاجتمع مِنهُم عَدَدٌ كثير، ولَم يَبقَ موضِعٌ خالِياً حتَّى عِندَ الباب، فأَلقى إِلَيهِم كلِمةَ الله :

تشير عبارة “عَدَدٌ كثير” إلى تحديد الكثرة من الأشخاص في أنّ حين متى الإنجيلي لا يحدد العدد بل يقول ” فإِذا أُناسٌ يَأتونَه”(متى 9: 2). أمَّا لوقا فيذكر ان الناس من كل مناطق اليهودية ” أَتَوا مِن جَميعِ قُرى الـجَليلِ واليَهوديَّةِ ومِن أُورَشَليم” (لوقا 5: 17). يؤكد مشهد الجموع تنامي شهرة يسوع وتحلّق الشعب حوله (مرقس 3: 20). أمَّا عبارة “أَلقى إِلَيهِم ” باليونانية ἐλάλει αὐτοῖς فتشير الى مخاطبة يسوع الى الجمهور المحتشد في بيت بطرس وعند باب بيته. أمَّا عبارة ” كلِمةَ الله ” باليونانية λόγον (معناها الكلمة) فتشير إلى البشرى السارة التي حملها يسوع الى البشر، هو جوهر رسالة يسوع (مرقس 4: 14 و33)، إنّها الكلمة التي تعلّم وتشفي وتطرد الأرواح النجسة وتغفر (مرقس 2: 2). “المخاطبة بالكلمة” تبدو وكأنّها عبارة من التقليد، تعني البشارة المسيحيّة، وما الوعظ او الكرازة المسيحية الاّ امتداد لتعليم وعمل يسوع في الكنيسة كما ورد في سفر اعمال الرسل “فأَخَذوا يُعلِنونَ كلِمَةَ اللهِ بِجُرأة. (اعمال الرسل 4: 29). وبعبارة أخرى، كانت الكنيسة الأولى تستعمل عبارة “كلمة الله ” للدلالة على رسالة المسيح.

3 فأَتَوه بمُقعَدٍ يَحمِلُه أَربَعَةُ رِجال:

تشير لفظة “مقعد” باليونانية παραλυτικός (معناها كسيح) الى رجل عاجز عن المشي، قد يكون كسيحا او مُخلَّعا او مفلوجا، غير قادر على الحركة وأخذ المبادرة، التحكّم بقراراته أو بمكان وجوده، هو الرجل الّذي انغلق وجوده بأسره على فراشه لا يغادره، وعلى صدقة يطلبها، متعلّق كليّاً بحسنة الآخرين يرفعونه وينقلونه. أمَّا عبارة ” يَحمِلُه ” فتشير الى حاجة المقعد للآخرين ليأتوا به الى يسوع. هذا هو مفهوم الشفاعة؛ والشفاعة والصلاة والتضرعات من أجل الآخرين مقبولة عند الله ومستجابة لديه. مدح القديس يوحنا الذهبي الفم هؤلاء الرجال، قائلًا” وضعوا المريض أمام المسيح ولم ينطقوا بشيء بل تركوا كل شيء له”. وأصبحت حمل المرضى الى يسوع عادة نجدها مع الأصمّ (مرقس 7: 32)، والأعمى (مرقس 8: 22)، والصبي المصاب بالصرع (مرقس 9: 20). يظهر مرقس الإنجيلي البعد الكنسيّ بالتركيز على دور الجماعة، وهو حمل الأكثر ضعفاً وفقراً ومرضاً أمام يسوع الشافي والغافر. ما روع خدمة نقدمها لإنسان وذلك بأن نضعه أمام المسيح، والمسيح هو الذي يعرف احتياجاته. وما أجمل أن تكون صلواتنا عرضًا أمام الله وكلنا إيمان وثقة أنه يهتم بنا ويهبنا أكثر مما نسأل وفوق ما نحتاج! أمَّا عبارة ” أَربَعَةُ رِجال ” فتشير الى أصدقاء المقعد حيث ألّف بين قلوبهم عمل الرحمة المشترك؛ يرى بعض الشرّاح في رقم أربعة أنه دلالة على الإمبراطوريّات الأربعة الواردة ذكرها في نبوءة دانيال (دنيال 7) ، اذ ورد في النص يسوع ابن الانسان المذكور أيضا في سفر دانيال. ، ورأى البعض الآخر ان الرجال الاربعة يُمثلون أقطار المسكونة الأربعة التي تحمل مرضى العالم إلى يسوع، وآخرون يقولون ان أَربَعَةَ رِجال يُمثلون بإيمانهم موقف التلاميذ الاربعة الذي اختارهم يسوع في بداية رسالته وهم: بطرس واخوه اندراوس، ويعقوب ويوحنا اخوه (مرقس 1: 14-20). ويرى البعض الآخر ان هؤلاء الرجال الأربعة يشيرون إلى الكنيسة كلها : كهنة (3 رتب: الأسقفية، الكهنوتية، الشماسية) وشعبًا، إذ يلتزم أن يعمل الكل معًا بروح واحد لكي يقدموا كل نفس مصابة بالمرض للسيد المسيح. فالكنيسة هي أمّ ومعلّمة. هي الأمّ التي تتحنّن على إبنها، فتعطيه الغذاء المناسب، وتحمله إلى كلّ مصدر أمان وخلاص له. لقد حركت حالة المقعد هؤلاء الرجال الأربعة، هل تحركنا حاجة الانسان لأعمال الرحمة؟ هل نبحث عن فرص سانحة كي نحضر اصدقاءنا المحتاجين او المرضى او الخطأة الى المسيح؟

4 فلَم يَستَطيعوا الوُصولَ بِه إِليه لِكَثرَةِ الزِّحام. فَنَبشوا عنِ السَّقفِ فَوقَ المَكانِ الَّذي هو فيه، ونَقَبوه. ثُمَّ دَلَّوا الفِراشَ الَّذي كانَ عليه المُقعَد:

تشير عبارة ” نَبشوا” باليونانية ἀπεστέγασαν الى الكشف عن السقف المصنوع من الطين والقش وجذوع اغصان الشجر. اما عبارة ” نَقَبوه” باليونانية ἐξορύξαντες (معناها ثقب) فتشير الى إزالة جزء من الطين والقش وفتح ثغرة في السقف. فقد كانت جدران البيوت في كفرناحوم أيام المسيح تُبنى جدار بالحجارة، ولها سقوف مسطحة من الطين والقش، وفي السقف فتحة مغطاة وقت الحاجة لكي يدخل النور على البيت. وكان ضيف الشرف يجلس هناك. وكان هناك درج خارجي يؤدي الى السطح. وهكذا استطاع هؤلاء الرجال بعزمهم وتصميمهم ان يحلموا المقعد على الدرج الخارجي الى السطح ويحفروا فتحة، ثم يدلوا منها صاحبهم المقعد الى أمام يسوع (لوقا 5: 18). وكان هذا العمل دليلاً حسّيًّا على إيمانهم. وأمَّا لوقا فيتحدث عن قرميد في السطح، ودلَّوْهُ بِسَريرِه مِن بَينِ القِرْميد ” (لوقا 5: 19)، لأنه يتخيل هذا البيت على نمط البيوت اليونانية. ويدل هذا المشهد أيضا على ان الناس يحاولون الاقتراب من يسوع بجميع الوسائل المتاحة حيث يتجاوب يسوع معهم في الحال.

5 فلَمَّا رأَى يسوعُ إِيمانَهم، قالَ لِلمُقعَد: يا بُنَيَّ، غُفِرَت لكَ خَطاياك:

تشير عبارة “لَمَّا رأَى يسوعُ إِيمانَهم” إلى ايمان الخمسة جميعهم حيث ان طريقة الوصول الى يسوع بوسيلة غير منتظرة تُعبّر عن إيمان المريض وحامليه. كان يأتون الناس اليه من أجل الشفاء، وكان يكتشف بدوره إيمانهم. يسوع يتطلع الى الايمان. والايمان هو فعل تسليم. تومن بالأمر يعني نسلّم به. الإيمان ليس ثقة بأنّ ما نريده سيتمّ، وإنّما ثقة بأنّ ما يريده الله سيتمّ. إن ايماننا يؤثر على الآخرين في مختلف الظروف. أمَّا عبارة “إيمانهم ” فتشير الى إيمان حاملي المقعد، وكلهم ثقة بقدرته الالهية التي تعمل عن يده (لوقا 9: 2). ويعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس “لا يرفض أن يلبّي طلب إيمان الآخرين. هذا الإيمان هو هديّة من النعمة، وهو يتطابق مع إرادة الله.” وهناك مرات يطلب يسوع الايمان قبل ان يتدخل كما حدث مع يائِيرس، رئيسِ المَجمَع لإحياء ابنته “ا تَخَفْ، آمِنْ فقط” (مرقس 5: 36)، ومرات يربط الشفاء بالإيمان كما حدث مع المرأة المنزوفة حيث قالَ لها يسوع “يا ابنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ” (مرقس 5: 34). أمَّا عبارة ” قالَ لِلمُقعَد ” فتشير الى كلمة يسوع الموجّهة فقط للمقعد وكلمته تدل على قدرته التي شفت المعقد روحيا وجسدياً حيث ان كلمته تعبر عن قوته وسلطانه. تشير عبارة ” يا بُنَيَّ” الى أبوة الله للبشرية حيث يشتاق الله أن يرد كل نفس إليه. والمسيح حين يغفر الخطايا فهو يشفى النفس، ويعيدها لحالة البنوة لله. الله الّذي رفضناه وأغلقنا باب قلوبنا أمامه، هو نفسه ينادينا “يا بنيّ”، فالله لا ينسى محبّته ولا يتراجع في خلاصه، هو ينتظرنا دوماً. أمَّا عبارة ” غُفِرَت ” فتشير إلى المجهول أي غفرها الله، فيسوع يعلن غفران الله حيث انه يستمد سلطانه من الله، وبالتالي فإن كلمة يسوع تصدر عن الله نفسه. أمَّا عبارة “غُفِرَت لكَ خَطاياك” فلا تشير الى دعاء تقوي، ولا تصريح بل الى عمل من اعمال سلطة يسوع، يسوع نفسه حيث يغفر خطايا الرجل المقعد. وبدأ يسوع بالحاجة الروحية، وهي غفران الخطايا حيث انه نزع الشر من جذوره، (التكوين 3)؛ لم يقل المسيح ان كل مرض هو نتيجة للخطيئة (يوحنا 9: 2، ولوقا 13: 1-5) انما حالة المقعد كان لها سبب روحي أساسي، وبالتالي غفر خطيئة هذا الخاطئ المقعد. يسوع يغفر الخطايا على الارض، لأنه جاء من اجل الخطأة كما صرّح: “ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبرار، بلِ الخاطِئين” (مرقس 2: 17). يرى يسوع الخطيئة، لكنه لا ليحكم على الخاطئ بل ليغفر له. وقد ربط يسوع بين شفاء المريض وإيمانه كما جاء في كلام يسوع الى يائيرس رئيس المجمع “لا تَخَفْ، آمِنْ فقط” (مرقس 5: 36)، وكلامه الى الرجل المصاب ابنه بالصرع ” كُلُّ شَيءٍ مُمكِنٌ لِلَّذي يُؤمِن” (مرقس 9: 23).

6 وكانَ بينَ الحاضِرينَ هُناكَ بَعضُ الكَتَبَة، فقالوا في قُلوِبهم:

تشير عبارة “الحاضِرينَ” باليونانية καθήμενοι (ومعناها الجالسين) الى التهيئة للتصدّي لأعمال يسوع وتعليمه؛ أمَّا عبارة “الكتبة” فلا تشير فقط الى معلمي الشريعة وبعض الفريسيين (لوقا 5: 17)، بل ايضا الى خصوم يسوع. وكان يسوع منذ البداية محاطاً بأعدائه الذين كانوا يتتبعون تحركاته ويتقصون أخباره ليتصيَّدوه بكلمة، ويتصدّون له، مرارًا عديدة (مرقس 2: 6؛ 16: 11)، ويتّهمونه مُدعين أن أعماله ليست من عند الله (مرقس 3: 22) ويهزؤون منه في آلامه (مرقس 15: 31). أمَّا عبارة ” فقالوا في قُلوِبهم ” باليونانية διαλογιζόμενοι ἐν ταῖς καρδίαις αὐτῶν (معناها مفكرين في قلوبهم) فتشير الى دلالة سلبيّة، تنمّ عن عدم فهم أو عن عناد رافض لما يحدث (مرقس 11: 31). وفي هذا الصدد قال يسوع ” مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ ” (مرقس 7: 21).

7 ما بالُ هذا الرَّجُلِ يَتَكَلَّمُ بِذلك؟ إِنَّه لَيُجَدِّف. فمَن يَقدِرُ أَن يَغفِرَ الخَطايا إِلاَّ اللهُ وَحدَه؟:

تشير عبارة ” هذا الرَّجُلِ ” الى ازدراء الكتبة ليسوع في كلامهم وهو يشابه انكار بطرس ليسوع كما جاء في انجيل متى “أَخَذَ يَلعَنُ ويَحلِفُ قال: ((إِنَّي لا أَعرِفُ هذا الرَّجُل” (متى 26: 74). أمَّا عبارة “لَيُجَدِّف” تشير الى كفر يسوع في نظر الكتبة لادعائه ان له سلطان غفران الخطايا، وهو لله وحده. إنه يدَّعي بعمل ما لا يقدر عمله إلا الله وهو غفران الخطايا (مرقس 14: 64). وبهذا الادعاء ينسب لنفسه مقام منزلة إلهية حيث اعتبر نفسه على مستوى الله (متى 26: 65)؛ وحسب الشريعة اليهودية كانت هذه الخطيئة تستوجب الموت (الاحبار 24: 15). والتجديف هو أكبر خطيئة يقترفها الانسان في نظر الكتبة والفريسيين والكهنة كما جاء في شهادة عظيم الكهنة في مجلس ضد يسوع ” لَقَد سَمِعتُمُ التَّجْديف، فما رَأيُكُم؟)) فأَجمَعوا على الحُكمِ بِأَنَّه يَستَوجِبُ المَوت” (مرقس 14: 64). والواقع لم يكن يسوع يجدّف، لان دعواه كانت صحيحة، فيسوع هو الله. وقد اثبت دعواه بشفاء المقعد (مرقس 2: 9-11)، وبيّن أنّهم هم أصحاب التجديف لأنه كلّ من ينسب عمل يسوع إلى غير الله، هو مجدّف لا يُغفر له ” وأمَّا مَن جَدَّفَ على الرُّوحِ القُدُس، فلا غُفرانَ له أبداً، بل هو مُذنِبٌ بِخَطيئةٍ لِلأَبَد. ذلك بأَنَّهم قالوا إِنَّ فيه رُوحاً نَجِساً ” (مرقس 3: 29-30). أمَّا عبارة ” فمَن يَقدِرُ أَن يَغفِرَ الخَطايا إِلاَّ اللهُ وَحدَه؟” فتشير موقف الكتبة الذين اعتبروا يسوع انه مجدّف أي كافر؛ وهذا موقف صحيح حيث لا يغفر الخطايا إلاّ الله. ولكن عليهم ان يتحققوا: هل يسوع هو على صواب (لوقا 5: 21). إنّ الله وحده يغفر الخطايا، ويسوع، كونه الله، يغفر أيضًا الخطايا على الأرض. ان شفاء يسوع لرجل مقعد هو ً دليل على ان له سلطانا على “مغفرة الخطايا”، وبما أنه أجري معجزة الشفاء، فهذا يدل حقّاً على أنه غفر الخطايا للمقعد، ومغفرة الخطايا دلالة على لاهوت المسيح. وبناء على ذلك يعتبر اتهامه بالتجديف لا أساس له. أمَّا عبارة ” اللهُ وَحدَه ” فتشير الى وحدة الله”، كما ورد تحديدًا في الشريعة ” اِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد ” (تثنية الاشتراع 6: 4).

8 فَعَلِمَ يسوعُ عِندَئِذٍ في سِرِّهِ أَنَّهم يقولونَ ذلك في أَنفُسِهم، فسأَلَهم: ((لماذا تقولونَ هذا في قُلوبِكم ؟

عبارة فَعَلِمَ يسوعُ عِندَئِذٍ” باليونانية καὶ εὐθὺς ἐπιγνοὺς (وعناها في الحال لمّا عرف) تشير الى تعبير مرقس الإنجيلي الذي تكرر 41 مرة. ويعطيه مرقس الإنجيلي أهمية كبرى حيث عرف يسوع بروحه ما يفكرون في الحال. يريد مرقس الإنجيلي أن يبيّن فوريّة نتيجة معرفة يسوع. أمَّا عبارة ” فَعَلِمَ يسوعُ عِندَئِذٍ في سِرِّهِ ” فتشير الى قدرة غير طبيعيّة لدى يسوع حيث يمكنه معرفة الغيب وما يجول في أفكارهم. وقدرة معرفة الغيب في العهد القديم هي من الصّفات الإلهيّة كما ورد في المزامير “إِنَّكَ فاحِص القُلوبِ والكُلى أيّها الإِلهُ البارّ” (مزمور 7: 10)، ويؤكد ذلك الحكيم يشوع بن سيراخ “إِنَّه سَبَرَ الغَمرَ والقَلْب ونَفَذَ إِلى مَقاصِدِها لأَنَّ العَليَّ يَعلَمُ كُلَّ عِلْم ونَظره على عَلاماتِ الأَزمِنَة. يُخبِرُ بِالماضي والمُستَقبَل وَيكشِفُ عن آثارِ الخَفايا. لا يَفوتُه فِكر ولا يَخْفى علَيه كَلام” يشوع بن سيراخ 42: 18-20). أمَّا عبارة ” لماذا تقولونَ هذا في قُلوبِكم؟” فتشير الى سؤال يطرحه يسوع علانية كجواب على سؤال الكتبة الذين طرحه الكتبة في قلوبهم ” ما بالُ هذا الرَّجُلِ يَتَكَلَّمُ بِذلك؟” علّ الكتبة يدركون أن الذي يفحص القلوب ويعرف الأفكار (مزمور 33: 15)
.

9 فأَيُّما أَيسَر؟ أَن يُقالَ لِلمُقعَد: غُفِرَت لكَ خَطاياك، أَم أَن يُقال: قُم فَاحمِلْ فِراشَكَ وَآمشِ؟

تشير عبارة “فأَيُّما أَيسَر؟ أَن يُقالَ لِلمُقعَد” الى جواب يسوع لخصومه من الكتبة. في نظر الناس أن الأيسر هو أن يُقال مغفورة لك خطاياك من أن يقال قُم فَاحمِلْ فِراشَكَ وامش. فإنه إذا قال غُفِرَت لكَ خَطاياك فلن يرى أحد الخطايا وهي تغفر، ولكن لو قال قُم فَاحمِلْ فِراشَكَ فهنا سيظهر صِدقه إن قام الرجل وحمل فراشه. وبهذا يكون قوله غُفِرَت لكَ خَطاياك، هو الأصعب لأنه يشتمل على غفران الخطايا والشفاء الجسدي. ان الكلام أسهل من العمل”. وان الكلام يفقد معناه إن لن تكن الأفعال تؤيده. سال يسوع سؤالا سديداً فتُرك السؤال بدون جواب والجواب ليس سهلا. أمَّا عبارة ” غُفِرَت لكَ خَطاياك، أَم أَن يُقال: قُم فَاحمِلْ فِراشَكَ وامش ” فتشير الى عملين قام بهما يسوع ليُفهم الكتبة مساواته لله. هو يستطيع ان يغفر الخطايا إذن هو مساو لله. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم” لقد أربكهم بنفس كلماتهم بقوله: لقد اعترفتم أن غفران الخطايا خاص بالله وحده، إذن لم تعد شخصيتي موضع تساؤل”، وأمَّا العمل الثاني فبكلمته شفى المقعد. يقوم يسوع بأعجوبة شفاء محسوسة يسهل مراقبتها، حتى يُثبت الشفاء الآخر الروحي، شفاء النفس الخاطئة. قام المسيح بتصحيح مفاهيم الكتبة، إذ حسبوا أن شفاء الجسد أصعب من شفاء النفس، لهذا أوضح لهم أنه يشفي الجسد المنظور لكي يتأكدوا من شفائه للنفس بغفرانه للخطايا وهو الأمر الأصعب. سبق أن شفى رجال الله في العهد القديم بعض المرضى (مثلاً إيليّا وأليشاع)، ولكن لم يسبق لأحد أن غفر الخطايا، فالله وحده يغفر. أمَّا عبارة ” قُم فَاحمِلْ فِراشَكَ وَآمشِ ” فتشير الى ثلاثة أفعال تبيّن الشفاء: قُم فَاحمِلْ فِراشَكَ وامش، وهذا الشفاء هو العلامة الخارجية لشفاء النفس من الخطيئة. وبدون الشفاء الجسد، كيف كان بإمكان المقعد التحقق من غفران خطاياه؟ الناس عادة يركزون عادة على قوة الله لشفاء الامراض الجسدية، أكثر مما على قوته لغفران المرض الروحي، اي الخطيئة أمَّا يسوع فانه يهتم في المقام الأول بحالة المقعد الروحية.

10 فلِكَي تَعلَموا أَنَّ ابنَ الإِنسانِ له سُلطانٌ يَغفِرُ بِه الخَطايا في الأَرض، ثُمَّ قالَ لِلمُقعَد:

تشير عبارة “فلِكَي تَعلَموا” الى ان شفاء المقعد كان للبرهان على أنّ يسوع يملك سلطان غفران الخطايا، بمعنى أنّه لو لم يعترض الكتبة على كلامه، من المحتمل ألاّ يشفي يسوع المقعد جسديّاً. أمَّا عبارة “ابنَ الإِنسانِ” فتشير الى أحد ألقاب يسوع والتي لا يرد الاّ في الانجيل وعلى لسان يسوع. وهذه اول مرة يطلق يسوع على نفسه “ابن الانسان” في انجيل مرقس. وجدت فيها الجماعة المسيحية الأولى إحدى العبارات الممّيزة ليسوع الناصري، ففضلتها على سائر الألقاب التي أطلقتها علي يسوع المسيح. وقد وردت هذه العبارة في سفر حزقيال (2: 1 -3) كما وردت في دانيال (1: 13)، وهذا اللقب، بارتباطه بالوصف النبوي لعبد الله المتألم، يتخذ معنى جديد وهو توحيداً فريداً بين الصليب والمجد (مرقس 8: 31). اما آباء الكنيسة فقد فهموا لقب “ابن الانسان” على الطريقة الحرفية فقالوا” انه الانسان الحق ممثل البشرية، أمَّا المسيحيون الاولون كان يهمهم هو الأصل السماوي لابن الانسان والعمل الإلهي الذي يُتمَّه. وعندما مجد لقب “ابن الانسان” دلالة على تقليد يعول الى أصول الايمان المسيحي، بل الى كلمات يسوع بالذات. أمَّا عبارة سُلطانٌ يَغفِرُ بِه الخَطايا في الأَرض” فتشير الى يسوع كابن الله له السلطان ان يغفر الخطايا، فالسلطان المعطى للكنيسة لمغفرة الخطايا مرتبط بسلطة يسوع نفسها كما جاء في انجيل متى في رواية شفاء المقعد ” فلَمَّا رأَتِ الجُموعُ ذلِكَ، خافوا ومَجَّدوا اللهَ الَّذي أَولى النَّاسَ مِثلَ هذا السُّلطان ” (متى 9: 8) (متى 16: 19، 18: 18). وهكذا ارتبط سلطان غفران الخطايا في الكنيسة بيسوع المسيح ” مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم ” (يوحنا 20: 23). كما ان يسوع هو العلامة المحسوسة لغفران الآب كذلك الكنيسة هي علامة المنظورة لغفران يسوع للبشر. أن الربيين كانوا يعلمون أن الإنسان لا يمكن شفاؤه من مرض إلاّ إذا غفرت خطاياه كلها. وبهذا يكون السيد المسيح حين قام بشفاء المقعد قد أثبت أنه غفر خطاياه كما قال. ولا شكّ أنّ مرقس الإنجيليّ يعلم أنّه في أزمنة الخلاص الأخيرة التي تكلّم عنها الأنبياء، سوف تُغفر الخطايا (إرميا 31: 31-34؛ حزقيال 36: 25-28).

11 أَقولُ لكَ: قُمْ فَاحمِلْ فِراشَكَ وَاذهَبْ إِلى بيتِكَ.

تشير عبارة ” قُمْ فَاحمِلْ فِراشَكَ وَاذهَبْ إِلى بيتِكَ ” الى امر وإعلان. الامر الذي يشفي، والإعلان الذي يخبر ان الشفاء قد تمَّ. صار هذا المريض المقعد انسانا سويا بعد ان شُفي عاهته. وقدرة يسوع المنظورة في الشفاء تدل على قدرته اللامنظورة في غفران الخطايا. أمَّا عبارة ” َاذهَبْ إِلى بيتِكَ.” فتشير الى بيته الأول وهو أحضان الآب، ويعلق القديس أمبروسيوس “لم يأمره فقط بحمل الفراش، وإنما أمره أن يذهب إلى بيته، أي يرجع إلى الفردوس، الوطن الحقيقي “.

12 فقامَ فحَمَلَ فِراشَه لِوَقتِه، وخَرَجَ بِمَرْأًى مِن جَميعِ النَّاس، حتَّى دَهِشوا جَميعاً ومَجَّدوا اللهَ وقالوا: ما رَأَينا مِثلَ هذا قَطّ”:

يشير الفعل ” قُم ” باليونانية Ἔγειρε إلى قيامة المريض كما من الموت وذلك بفضل كلمة الله. لقد قام هذا المقعد بصحة وعافية وكأننا أمام معجزة خلق من جديد. وهكذا يحدث مع كل تائب، أن الله يعطيه أن يصير في المسيح خليقة جديدة. في الواقع هو نفس الفعل الذي اقام فيه يسوع إبنة يائيرس (مرقس 5: 41)، وهو الفعل ذاته الذي يصف قيامة الربّ من بين الأموات (مرقس 16: 4). إنّها “قيامة” بالنسبة إلى هذا المقعد، قيامة من حالة المرض وحالة الخطيئة. إنّها قصّة قيامة، ينتصر فيها الربّ على الموت وعلى كلّ أشكاله، ومنها المرض.
واما عبارة ” فَاحمِلْ فِراشَكَ وَآمشِ ” فتشير الى علامة واضحة أنّه أصبح المقعد مستقلاًّ، يتّكل على ذاته وقوته، حاملاً هو فراشه بعد أن حمله فراشه سنيناً طوال. وأنّه يستطيع مغادرة المكان الذي أتى إليه ليطلب الشفاء. ففي ذلك المكان، يستطيع أن يترك حالته الواهية السّابقة وينطلق إلى بيته، إلى خاصّته، ليعيش معهم. أمَّا عبارة ” فِراشَكَ ” فتشير الى سرير بسيط جدا لان هذا المريض مقعد وفقير. ويرى القديس اوغسطينوس في هذا الفراش “رمزًا لضعف الجسد. ففي خطايانا كنا محمولين بشهوات الجسد وزلاته، مربوطة نفوسنا ومقيَّدة عن الحركة، لكننا إذ نحمل قوة الحياة الجديدة تحمل النفس الجسد بكل أحاسيسه وطاقاته لتقوده بالروح لحساب مملكة الله وتدخل به إلى بيتها، أي الحياة المقدس”.
أمَّا عبارة ” لِوَقتِه ” باليونانية εὐθὺς (معناها في الحال او للوقت) الى تعبير مرقس الإنجيلي الذي تكرر 41 مرة. ويعطيه مرقس الإنجيلي أهمية كبرى حيث تمّ الشفاء في الحال. ويريد مرقس، بذلك، إظهار فوريّة لمفاعيل الخلاص لعمل يسوع (مرقس 10: 52). في الحال، حمل فراشه وخرج أمام الجميع. شفاء المقعد يلمِّح إلى الأزمنة المسيحانيّة: ” وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل” (اشعيا 35: 6). أمَّا فعل “خرج” باليونانيّة ἐξῆλθεν فتشير الى انطلاقة جديدة على دروب هذه الحياة. من حيث أعطاه الربّ نعمة الشفاء. يبدو ان خروج المقعد له مكانً محوريّ لمرقس الانجيلي؛ أمَّا عبارة ” بِمَرْأًى مِن جَميعِ النَّاس ” فتشير إلى خروج المقعد الذي لم يتمّ على حدة، بل أمام الجميع. يسوع يعلم كيف يكشف عن هويّته، إنّه هو المسيح. يريد، من خلال كلّ ذلك، أن يغوص الإنسان في سرّه أكثر، وأن يفهم حقًّا من هو. أمَّا عبارة “مَجَّدوا الله” فتشير الى تمجيد الله أبيه لأجل أعماله التي بها شفى المقعد وغفر خطاياه. وتمجيد الله هو اعتراف بعظمته. انفجر الحاضرون من التلاميذ والمُحبين والمعجبين والاتباع بعواطفهم تمجيدا بعكس الكتبة والفريسيين الذي الذين استنكروا المعجزة واتَّهم يسوع بالتجديف. يذكر الإنجيل غالبا ان الحاضرين “يمجدون الله” على أثر التجليات الإلية، ولا سيما المعجزات (لوقا 5: 25-26 و7: 16 , 13: 13 و17: 15 و18: 43). أمَّا عبارة ” ما رَأَينا مِثلَ هذا قَطّ” فتشير الى الاعتراف بعظمة يسوع. أذ أُعجب الجموع من معجزة يسوع في شفاء المقعد كما أعجب من شفاء أخرس ممسوس ” فلَمَّا طُرِدَ الشَّيطانُ تَكَلَّمَ الأَخرَس، فأُعجِبَ الجُموعُ وقالوا: ((لَمْ يُرَ مِثْلُ هذا قطُّ في إِسْرائيل!” (متى 9: 33). أمَّا متى حاول ان يوضح نصّ انجيله الإزائي أنّ الكنيسة تغفر الخطايا على الأرض، كما غفر يسوع لهذا المقعد “فلَمَّا رأَتِ الجُموعُ ذلِكَ، خافوا ومَجَّدوا اللهَ الَّذي أَولى النَّاسَ مِثلَ هذا السُّلطان”(متى 9: 8)، وأكد متى هذه الحقيقة حين قال يسوع لبطرس لاحقًا” وسأُعطيكَ مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات. فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات” (متى 16: 19).

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 2: 1–12)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (مرقس 2: 1–12)، يمكن ان نستنتج ان النص يتمحور حول ثلاثة نقاط؛ وهي مغفرة الخطايا، وسلطان مغفرة الخطايا والمقعد وموقف سيدنا يسوع المسيح.

1) مغفرة الخطايا

الغفران او المغفرة هي صفة من صفات الله المقدسة. والمغفرة تعني ستر الخطيئة للمؤمن الخاطئ والصفح عنه، وبالعبرية סָלַח (عدد 14: 19)، وكأنه تعالى قد نبذها وراء ظهره كما ورد في نشيد حزقيا الملك “نَبَذتَ جَميعَ خَطايايَ وَراءَ ظَهرِكَ” (اشعيا 38: 17) او رفعها بالعبرية (תִּשָּׂ֣א) (خروج32: 32)، وكفّر عنها وأزالها (اشعيا 6: 7) ولم يحسبها الله “طوبى لِمَن مَعصِيَته غُفِرَت وخَطيئَته سُتِرَت. طوبى لِمَن لا يَحسُبُ علَيه الرَّبّ” (مزمور32: 1-2)،

وتعني المغفرة أيضا محو المعاصي والآثام وستر وجه الله عنها وعدم تذكرها وطرحها في اعماق البحر ودوسها كما قال ميخا النبي” يَرأَفُ بِنا وَيدوسُ آثامَنا وتَطرَحُ في أَعْمَاقِ البَحرِ” (ميخا7: 19). وهناك مفردات أخرى مثل طهّر وغسل وبرّر، هي مرادفة للغفران كما ورد في رسالة يوحنا “فبدمه نتطهّر، ونغتسل من خطايانا” (1 يوحنا 1/ 7).

ولا غفران الاَّ به تعالى كما يصرح صاحب المزامير “إِنَّ المَغفِرَةَ عِندَكَ” (مزمور130: 4). والغفران عطية الله للمؤمن على يد يسوع المسيح “أَنَّكم عن يَدِه تُبَشَّرونَ بِغُفرانِ الخَطايا”(اعمال الرسل 13: 38)؛ وذلك نتيجة غنى نعمة الله للإنسان “الَّتي أَنعَمَ بِها علَينا في الحَبيب فكانَ لَنا فيه الفِداءُ بدَمِه أَيِ الصَّفْحُ عنِ الزَّلاَّت على مِقدارِ نِعمَتِه الوافِرة” (أفسس1: 6)؛ إذ كفّر المسيح عن بني البشر كما يؤكد صاحب الرسالة الى العبرانيين “المسيحُ قُرِّبَ مَرَّةً واحِدة لِيُزيلَ خَطايا جَماعَةِ النَّاس” (عبرانيين 9: 28). فالمسيح القائم من الموت، بمنحه الروح القدس لرسله، وهبهم سلطانه الالهي في مغفرة الخطايا “خذوا الروح القدس. فمن غفرتم خطاياهم غفرت لهم، ومن أمسكتم خطاياهم امسكت” (يوحنا 20: 22-23). وقد أرسل رسله “ليكرزوا باسمه بالتوبة لمغفرة الخطايا في جميع الامم” (لوقا 24: 47). ومن هذا المنطلق تتركز الكرازة المسيحية الاولى حول نوال موهبة الروح القدس، وغفران الخطايا الذي هو أول نتائجه (اعمال الرسل 2/ 38).

وواجب الانسان أن يطلب الغفران، بإيمان ونية صادقة، وإن الله يصفح عن الخاطئ الذي يعترف بخطاياه (مزمور32: 5). كما ان واجبه ان يبشّر الآخرين به. وما غفران المؤمن لأخيه باسم الرب ألاّ دلالة على وجود الرب في المؤمنين في كل اعمالهم إذا كانت اعمالهم صادرة عن إيمانهم. وعلى هذا الاساس طلب الله من المؤمنين ان يغفروا لأخوتهم المسيئين إليهم، وفي ها الصدد قال يسوع “فإِن تَغفِروا لِلنَّاسِ زلاتِهِم يَغْفِرْ لكُم أَبوكُمُ السَّماوِيّ وإِن لَم تَغفِروا لِلنَّاس لا يَغْفِرْ لكُم أَبوكُم زلاَّتِكُم” (متى 6: 14-15). وقد اكتشف ابن سيراخ الحكيم الرابطة بين غفران الانسان لأخيه وبين الغفران الذي يلتمسه الانسان من الله. “إِغْفِرْ لِقَريبِكَ ظُلْمَه فإِذا تَضَرَّعتَ تُمْحى خَطاياكَ. أَيَحقِدُ إِنسانٌ على إِنْسان ثُمَّ يَلتَمِسُ مِنَ الرَّبِّ الشِّفاء أَم لا يَرحَمُ إِنْسانًا مِثلَه ثُمَّ يَطلُبُ غُفْرانَ خَطاياه؟ (سيراخ28: 2-3). ويعلم يسوع بان الله لا يمكن ان يغفر لمن لا يغفر لأخيه، وانه حتى نطلب الغفران لنا، ينبغي ان نغفر لأخينا. ولكيلا ننسى هذه الحقيقية طلب منا الرب ان نُردِّدها كل يوم في الصلاة الربانية ” أَعْفِنا مِمَّا علَينا فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه”(متى 6: 12). وعلى هذا الاساس طلب الله ايضا ان يستمر الانسان في الغفران ولا يمل بدافع المحبة كما أوصى يسوع بطرس ان يغفر لقريبه “لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات “(متى 18: 22) اقتداء بالرب كما يقول الرسول بولس “كما صَفَحَ عَنكُمُ الرَّبّ، اِصفَحوا أَنتُم أَيضًا” (قولسي 3: 13). إن كان القاء كلمة الله الى البشر هي جوهر رسالة يسوع، فإن مغفرة الخطايا هي جوهر القاء كلمة الله. ومن هنا نبحت عن مغفرة الخطايا لمقعد في كفرناحوم.

2) سلطان غفران الخطايا والمقعد:
قالَ يسوع لِلمُقعَد: يا بُنَيَّ، غُفِرَت لكَ خَطاياك (مرقس 1: 5) وبذا دل يسوع على معنى رسالته، وهي غفران الخطايا على الأرض ” فلِكَي تَعلَموا أَنَّ ابنَ الإِنسانِ له سُلطانٌ يَغفِرُ بِه الخَطايا في الأَرض ” (مرقس 2: 10).
نرى يسوع يتوجّه الى الانسان كله نفساً وجسداً يشفيه من مرضه ويحرّره من خطيئته. ويُعلّق القديس كليمنضوس الإسكندري “إنّ فنّ الطبيب، بحسب الفيلسوف ديموقريطوس، يشفي مرض الجسد؛ وتحرّر الحكمة النفس من هواجسها. لكن المعلّم الصالح، الحكمة، الّذي هو كلمة الربّ الّذي اتّخذ جسداً بشريّاً، يعالج كل طبيعة خلائقه. إنّ طبيب البشريّة كليّ القدرة، المخلّص، يشفي كلّ من الجسد والنفس معاً”.

وراء مهمته بصنع العجائب، يُشدد يسوع على الايمان وينجز عملا مسيحانيا داخليا؛ الا وهو غفران الخطايا. وفي الواقع قال يسوع للمقعد ” “يا بُنَيَّ، غُفِرَت لكَ خَطاياك” (مرقس 2: 5)، يعلق القديس اوغسطينوس “فشفى الرّب يسوع هذا الرجل من الشلل الداخلي: لقد غفر له خطاياه وشدّد ايمانه”. وغفران الخطايا علامة على الأزمنة المسيحانيّة (اشعيا 40: 2، يوئيل 2: 32). يسوع يتطلع الى الايمان، وينظر نظرة إعجاب وعطف إلي المقعد الذي يرزح تحت نير الالم والمرض. وينفعل يسوع كسائر الرجال، ويكتشف جوهر النفس. كان الناس يأتون اليه من اجل شفاء جسدي، أمَّا يسوع فكان يكتشف أيمانهم الثابت ويغفر لهم. يسوع هو الاله الذي يرى الخطيئة، لكنه لا يدينها. إنه جاء لا يحكم على الخاطئ بل يغفر له.

ونستنتج مما سبق ان لكل إنسان قيمته في نظر يسوع الذي يقترب منه ويحدثه ويحمل اليه كلمة الخلاص والسلام والحق والحياة. فلم يكتفِ يسوع بإعلان غفران الخطايا الذي قبله منه المقعد المؤمن المتواضع، بل مارس منح الغفران وأستشهد بعمله انه يملك هذا السلطان الخاص بالله وحده. فمغفرة الخطايا ليست عملاً يستطيع الإنسان أن يقوم به، إنّما هي علامة خاصّة بالربّ وهي رسالة يحملها المقعد، الّذي غفر له الله خطاياه، بأن ينقل ما ناله الى خاصّته، وأن يكون رسول الشفاء والمغفرة. وذلك بناء على قول يسوع له ” أَقولُ لكَ: قُمْ فَاحمِلْ فِراشَكَ وَاذهَبْ إِلى بيتِكَ” (مرقس 2: 11).

3) سلطان غفران الخطايا والكتبة:

إن كان المسيح قد جاء خادمًا للعالم كله، يبسط يديه للعمل في حبه الإلهي بلا حدود، فقد قُوبلت أعمال محبته بمقاومة من جهة سلطانه في مغفرة الخطايا. وهذا ما أغضب الكتبة الذين يعتبرون نفوسهم المدافعين عن الله فبدأوا بدهشة يتساءلون ” ما بالُ هذا الرَّجُلِ يَتَكَلَّمُ بِذلك؟ ثم حكموا على كلمات يسوع ” إِنَّه لَيُجَدِّف. وكان سبب حكمهم هو ” فمَن يَقدِرُ أَن يَغفِرَ الخَطايا إِلاَّ اللهُ وَحدَه؟ (مرقس 2: 7). ولكن سؤالهم كان تحدياً للاهوت المسيح، وقد أجاب يسوع عن ذلك؛ اولا بإجابته عن افكارهم التي لم يجاوبا عنها ” لماذا تقولونَ هذا في قُلوبِكم؟ فأَيُّما أَيسَر؟ أَن يُقالَ لِلمُقعَد: غُفِرَت لكَ خَطاياك، أَم أَن يُقال: قُم فَاحمِلْ فِراشَكَ وَآمشِ؟”(مرقس 2: 8). إن الذي يقرأ افكار الناس يستطيع ان يغفر خطاياهم. وثانيا لقد قدّم يسوع لهم برهاناً. ان الادعاء بغفران الخطايا لا يمكن ان تدعمه نتائج، ولكن القدرة على الشفاء يمكن اثباتها عمليا حيث استطاع يسوع ان يجعل ذلك الرجل المقعد ان يمشي. ويعلق القديس اوغسطينوس على الكتبة “كانوا يؤمنون بأنّ الله يملك قدرة غفران الخطايا، لكنّهم لم يروا أنّ الله حاضر فيما بينهم. لذا، عمل يسوع أيضًا على جسد المقعد ليشفي الشلل الداخليّ عند أولئك الّذين كانوا يتكلّمون عليه بالتجذيف. فقام بأمر يمكنهم أن يروه لكي يؤمنوا هم أيضًا”.

الله وحده يقدر أن يغفر خطيئة الإنسان، والمسيح جاء يتممّ هذه الحقيقة. إزاء رفض الكتبة لهذه الحقيقة، أعطاهم يسوع تأكيداً، هو تأكيد الأسهل بواسطة الأصعب. من السهل أن يقال للمرء أن خطيئته قد غُفرت، أنّما هذه المغفرة لا يمكن أن نلمسها ونؤكّدها، بل هي موضوع إيمان وثقة بالله الغافر، أمّا الشفاء فهو مرئي ومحسوس ولا يُمكن أن ننكره. وما كان الشفاء إلاَّ دليل، ليس هو الأهم ولا العمل المحوريّ في هذا النّص. شفاء الإنسان من خطيئته هو الهدف الأعمق، أمّا الشفاء الجسديّ فتمّ من أجل إيمان الجماعة الحاضرة، كإعلان لقدرة المسيح على مغفرة الخطيئة ونتائجها: الموت والمرض والألم وبالتالي ان المسيح لم يجذّف بل هو الله المتجسد الذي يغفر الخطايا. إن سلطان مغفرة الخطايا تتعلّق بالله، ويسوع ينسب هذه السلطان الى شخصه ” أَنَّ ابنَ الإِنسانِ له سُلطانٌ يَغفِرُ بِه الخَطايا في الأَرض ” (مرقس 2: 10)، ومعنى ذلك أ، المسيح هو على الأرض مُرسلاً من الله الآب، ويعمل كلّ شيء باسمه ولمجده، ومعفرة الخطايا والشفاء الجسديّ ما هو الاّ تتميم لإرادة الله الخالق وإعادة الخليقة الى جمالها الأوّل.

وقدَّم يسوع برهانا آخر انه قادر لمغفرة الخطايا بقوله ” أَنَّ ابنَ الإِنسانِ له سُلطانٌ يَغفِرُ بِه الخَطايا في الأَرض” (مرقس 2: 10). ان المسيح هنا يعلن أنه ابن الإنسان الذي جاء محملاً بقوة غفران الخطايا ليشفي البشر من خطاياهم كما بشر الملاك جبرائيل مريم العذراء “هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم “(متى 1: 21). وفي هذا التقليد سيأتي ابن الانسان على سحاب السماء في اليوم الأخير ليدين البشر الخاطئين ويخلّص الابرار. ويستبق مرقس الإنجيل هنا تلك الدينونة بسلطانه مخلصاً الخاطئين (متى 9: 6) وفاتحا الزمن المسيحاني (مرقس 12: 8).

ولقب “ابن الانسان” يذكرنا بنبوءات العهد القديم، لا سيّما بنبوءة دانيال ” ورَأيتُ في مَنامي ذلِكَ اللَّيلَ، فإذا بِمِثلِ اَبْنِ إنسانٍ آتيًا على سَحابِ السَّماءِ، فأسرَعَ إلى الشَّيخ الطَّاعِنِ في السِّنِ. فقُرِّبَ إلى أمامِهِ وأُعطِيَ سُلطانًا ومَجدًا ومُلْكًا حتى تعبُدَهُ الشُّعوبُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ولِسانٍ ويكونَ سُلطانُهُ سُلطانًا أبديُا لا يَزولُ، ومُلْكُهُ لا يتَعَدَّاهُ الزَّمنُ (دانيال 7: 13-14)، وهذا هو إعلان غير مباشر أن بيسوع المسيح قد ابتدأ الخلاص، وهذا الخلاص هو ثمرة المُلك الأبديّ الّذي سوف يكون ليسوع المسيح، إبن الإنسان.

ولقب “ابن الانسان” يؤكد ان يسوع إنسان كامل حقا، وكإنسان يستطيع ان يتحد بنا ويعيينا لنتغلب على الخطيئة بينما يؤكد لقب “ابن الله” أنه الله بالحق وقادر ان يغفر الخطايا. إن غفران يسوع للخطايا دليل على لاهوته. مما يدلُّ على انه بالتجسد لم يخلِ نفسه من امتيازاته الالهية. قال يسوع كلمته “يا بُنَيَّ، غُفِرَت لكَ خَطاياك”. لقد أراد الرّب يسوع بهذه الكلمات أن يُعرَف بأنّه الرّبّ فيما كان خافيًا عن العيون البشريّة بجسده البشري. ومن ملء سلطانه في السماء وعلى الارض، منح المسيح القائم من بين الاموات رسله السلطة لغفروا الخطايا (يوحنا 20: 22-23). وأرسل الرسل يكرزون بمغفرة الخطايا (اعمال الرسل 2: 38).

شفاء المقعد كان بركة للمريض نفسه الذي تمتع بغفران خطاياه كما بصحة جسده، وفرصة لكي يتحدث الرب مع الكتبة معلنًا لهم أنه المسيح، وأيضًا للجماهير التي بهتت، قائلة: “ما رأينا مثل هذا قط”. لقد جاء يسوع ليبرئ الانسان كله، جسدا وروحا. ويشفيه من مرضه، ويحرِّره من خطيئته ومِن ما يُبعده عن سماع نداء الله. أنه الطبيب الذي يحتاجه المرضى (مرقس 17: 2). وقد اوغلت به شفقته على كل المرضى المتألمين الى حد التماهي وأياهم: “كنت مريضا فعدتموني” (متى 25:36). جاء يسوع ليكون لنا الحياة. هل نحن بحاجة الى الشفاء الروحي والجسدي؟

الخلاصة
يطلق يسوع على نفسه “ابن الانسان”. ولقب ابن الانسان يؤكد ان يسوع انسان كامل، بينما يؤكد لقب “ابن الله” (يوحنا 20: 30)، وكإبن الله كان ليسوع السلطان ان يغفر الخطايا، وكإنسان يستطيع ان يتحد بنا في انسانيتنا وضعفنا وأمراضنا، وان يعيننا لتغلب على الخطيئة. ونستنتج مما سبق ان يسوع لم يكن ليملك سلطان الشفاء وحسب، بل سلطان مغفرة الخطايا أيضاً (مرقس 2:5-12). وفي الواقع، هو وحده يمكنه أن يغفر خطايانا، وقد بذل حياته الخاصة لمغفرة الخطايا كما صرّح في العشاء الاخير: “هُوَ دَمي، دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجْلِ جَماعةِ النَّاس لِغُفرانِ الخَطايا” (متى 28:26). وعليه يقول رسول الامم “ولنا الفداء ومغفرة الخطايا” (قورنتس 14:1)

ويعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس ” آه يا أيّها الفرّيسي، تظنّ أنّك تعرف وأنت لست سوى جاهل! تظنّ أنّك تعترف بالألوهيّة فيما أنت تنكرها! تظنّ أنّك تحمل الشهادة فيما أنت تضطهد! إذا كان الربّ هو مَن يغفر الخطايا، فلمَ لا تتقبّل إذًا ألوهيّة المسيح؟ كونه استطاع منح المغفرة لخطيئة واحدة، فهذا يعني أنّه محى خطايا العالم أجمع. “هُوَذا حَمَلُ اللهِ الذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم” (يوحنا 1: 29). أصغِ إليه كي تكتسب علامات ألوهيّته. نعم، لقد دخل إلى أعماق قلبك. أنظر إليه، لقد وصل إلى أعماق أفكارك. إفهم أنّه يعرف النوايا الخفيّة لقلبك”.

دعاء
“أيّها الربّ يسوع، طبيب النفس والجسد، أنت تحمل الشفاء والتجدّد للجسد والنفس والعقل، من خلال رحمتك وغفرانك. علّ قوّتك الشافية تلمس كل جانب من جوانب حياتنا – أفكارنا ومشاعرنا ومواقفنا وذكرياتنا. اغفر خطايانا وحوّلنا بقوّة روحك القدّوس كي نصبح خليقة جديدة فنعيش جِدّة حياة المحبّة في الغفران”.