يسوع يكشف وجه الله الثالوث (يوحنا 3: 16-18)

الأب لويس حزبون

تحتفل الكنيسة بعيد الثالوث الأقدس، وقد اوصت الكنيسة عام 1263 بإقامة عيد الثالوث في يوم الاحد الذي يلي العنصرة. ويكشف انجيل يوحنا عن وجه الله، الثالوث الاقدس (يوحنا 3: 16-18)؛ وإننا بإيماننا بالثالوث لا نكون مشركين ولا كافرين، إنما نستجيب لدعوة يسوع المسيح ” إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه” (يوحنا 1: 18). فالكافر هو من كفر بكشف الله، وأنكر على الله أنه الثالوث الأقدس وانكرألوهيّة المسيح والثّالوث؛ ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 3: 16-18)
16 فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة

تشير عبارة ” اللهَ أَحبَّ العالَمَ” الى تاريخ الله مع البشر وهو تاريخ محبة. وقد عرّف يوحنا الله بقوله “اللهُ مَحبَّة” (1 يوحنا 4: 16). فإلهنا هو الاله الذي يحب. الله يحب العالم، لان العالم خليقته. “َخَلَقَ اللهُ الإِنسانَ على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه ذَكَرًا وأُنْثى خَلَقَهم” (التكوين 1: 27). فهو إله وأب في آن واحد. فالله هو إله الخلاص، ولا يريد موت الخاطئ إنما يريد له التوبة. اما عبارة “العالَمَ ” فتشير الى اليهود والوثنيين او الأمم؛ فشعوب الأرض هي مسرح قصد الله الخلاصي. اما عبارة ” جادَ ” فتشير الى إلهٍ أعطى نفسه عطاء كاملًا لكيلا يهلك كل من يؤمن به. اما عبارة ” ابنِه الوَحيد ” فتشير الى يسوع المسيح، ابن الله الذي صار ابنًا للإنسان ليفدينا. فيسوع هو ليس خادمًا، ولا ملاكًا ولا رئيس ملائكة بل هو ابن الله وعطية الله، بل أثمن عطية وهبها الله للبشر. وأكَّد ذلك بولس الرسول بقوله “إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟ (رومة 8: 32). هذه العبارة تذكرنا بتقديم إبراهيم ابنه الوحيد محرقة. فإسحق كان رمزًا للمسيح. لم يُصمّم موت يسوع بإرادة الانسان ولكن بمحبة الله الذي يبذل ابنه الوحيد ذبيحة عن العالم. محبة الله قوية إلى درجة بذل الذات. اما عبارة ” الحياةُ الأَبدِيَّة” فتشير الى ان حياة المسيح وهي أبدية. وليس في تلك الحياة موت ولا مرض ولا أعداء ولا شر ولا خطيئة. وهذه الحياة هي مقدمة للأبدية، لذا علينا ان نقيِّم كل ما يحدث من منظور الأبدية. يسوع حي ويهب حياته. الحياة هي أكبر ثروة يستطيع الانسان ان يمتلكها. ويهبها عن طريق موته على الصليب “أَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين” (يوحنا 12: 32). قد دفع الله ثمن خطيئة الانسان من خلال تضحية ابنه الوحيد يسوع المسيح. وقد قبل يسوع عنا عقابنا ودفع ثمن خطايانا، وقدّم لنا الحياة الجديدة التي اشتراها من اجلنا مما يدلُّ على حب الله (أفسس 4: 18) المتجسد في المسيح، والمعطاة الآن لكل المؤمنين كضمان لكونهم يعيشون الى الابد. إن الله يقدم لنا الحب الحقيقي الذي هو نموذج واساس كل علاقات المحبة.

17 إِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم
تشير عبارة “فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم” الى ان الله محبة وعندما يحب يريد كل خير للذين يُحبهم. لكن الذي يرفض المحبة يحكم على نفسه بالهلاك، ذلك بأن ليس هناك سبيل آخر الى الله “لِأَنَّ الآبَ لا يَدينُ أحَداً بل أَولى القَضاءَ كُلَّه لِلاِبْن” (يوحنا 5: 22). اما عبارة “لِيُخَلَّصَ بِه العالَم” فتشير إلى أنّ خلاص البشر هي امنية الله ومخططه كما ورد في الكتب المقدسة ” أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة ” (هوشع 6:6)، ” فإِنِّي ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبْرارَ، بَلِ الخاطِئين ” (متى 9: 13). والخلاص محور رسالة يسوع (يوحنا 3: 17؛ 8: 15)، يسوع وحده المُخلص (يوحنا 5: 31)، فقد قدَّم على الصليب الخلاص علانية أمام العالم كله. فكان الخلاص الرسالة الرئيسية في زمن الرسل (اعمال الرسل 15: 1) وهي محور كرازتهم (اعمال الرسل 11: 14) لجميع الناس (اعمال الرسل 16: 30).
18 مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد.
تشير عبارة ” يُؤمِنْ ” الى اعتراف الانسان بقدرة ابن الله والدعاء إليه ووضع ثقته فيه. الإيمان بالسيد المسيح ليس عقيدة نظرية مجردة، بل شركة واتحاد عملي معه، هو انتماء الى المسيح بالاعتراف به على أنه ابن الله وكاشف عن سر الآب، وهو ممارسة الحق والطاعة والانجذاب نحو النور “فكُلُّ مَن آمَنَ بي لا يَبْقَى في الظَّلام” (يوحنا 46:12). من يؤمن بالمسيح يكون له سلام مع الله كما جاء في تعليم بولس الرسول ” فلَمَّا بُرِّرْنا بِالإِيمان حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ بِرَبِّنا يسوعَ المَسيح،” (رومة 5: 1). وأما إذا كان الانسان في الظلمة فلا يبقى فيها، بل يُصلح خطأه ويُصحح نقائصه، ويحفظ وصاياه. فمَنْ يؤمن يخرج من دائرة الدينونة، أما من يُدان فهو يدان لأنه خرج من دائرة الحب. اما عبارة ” ومَن لم يُؤمِنْ بِه ” فتشير الى من لا يثق في ابن الله ويرفضه ويتجاهله؛ اما عبارة ” لا يُدان ” فتشير عدم الدينونة او ” عدم الحُكْمٍ على الَّذينَ هُم في يسوعَ المسيح” (رومة 8: 1) السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح. قد أكد السيد المسيح هذا القول: ” الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة”(يوحنا 5: 24). اما عبارة “دِينَ مُنذُ الآن” فتشير الى الدينونة تتمُّ حين يقف الانسان امام ابن الانسان، امام صليبه المقدس (يوحنا 16: 11)، ويرفض الوحي الذي يقدّمه له فيُدان في الحال. وتبدأ دينونته على الأرض ليس بسبب خطاياه القديمة بل لرفضه المسيح الذي يغفر خطاياه؛ فكما أن القاتل وإن كان لا يُحكم عليه بطبيعة القاضي، فإنه يُحكم عليه بطبيعة فعله، كذلك من لا يكون مؤمنًا يُحكم عليه بطبيعة إنكاره وكفره. أما العالم اليهودي فيعتقد أنّ الدينونة تتم في نهاية التاريخ. والدينونة هي حكم على من يرفض أن يؤمن وهي كشف القناع عن الانسان الذي يعمل الشر ويغش نفسه ويرفض الله. “وإِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إِلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة. فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إِلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه. وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إِلى النُّور” (يوحنا 3: 19-20). وانطلاقا من هذا المبدأ، فإمَّا ان نعمل الخير او الشر، كل من يصنع الخير حتى لو لم يعرف المسيح، فهو في شركة أكيدة مع الله. ويحذِّر يسوع من عدم الإيمان ” ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض.” (يوحنا 8: 34). وهكذا تقسم البشرية قسمين: اولئك الذين يقبلون النور، وأولئك الذي يرفضون النور، ويفضلون الظلام (الشر والخطيئة) على النور الذي هو يسوع نور العالم (يوحنا 3: 19). في هذه الآية يكمن جوهر خيارنا: إما مع المسيح او ضده، إمَّا ان نؤمن او لا نؤمن بيسوع. ومن هنا تقع المسؤولية على عاتق الانسان. الله يريد خلاصنا، غير ان بعض الناس يرفضون هذا الخلاص، ويحكمون هم على أنفسهم. وهنا يتقابل الخلاص والدينونة في شخص المسيح. لن يكون الرب من يدين هذا الاختيار، فان عمل الرب هو ان يغربل الخير من الشر. لذا ظهور يسوع يكوّن أزمة في حياة العالم ويضطر الناس ان يقبلوا النور أو ان يمكثوا في الظلمة، وبالتالي في الهلاك. فالمسيح في مجيئه الأول أتى ليخلص، وفي مجيئه الثاني سيأتي ليدين، ولا يمكن تجنّب الدينونة، ولا حتّى تأجيلها. أما عبارة “بِاسمِ ” فتشير الى القدرة وقوة فداء يسوع المسيح.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 6: 24-34)

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 3: 16-18)، نستنتج انه يتمحور حول كشف يسوع وجه الله الثالوث الاقدس. ومن هنا نتساءل: ما هو سر الثالوث؟ وكيف كشف يسوع وجه الله الثالوث الاقدس؟

1) ما هو الثالوث الاقدس؟

يقوم الإيمان المسيحي على الثالوث الأقدس. والثالوث يعني إله واحد بثلاثة أقانيم متميزين الآب والابن والروح القدس. الآب الذي خلقنا، والابن الذي افتدانا وخلّصنا، والروح القدس الذي يُحيينا ويقدّسنا. وسر الثالوث هو سر ذات الله العجيبة، سر حياته الداخلية، سر كماله رسالته في ذاته. الله واحد في الطبيعة الالهية بثلاثة أقانيم. وكل اقنوم هو الله كاملا: “الآب هو ذاتُ ما هو الابن، والابن هو ذات ما هو الآب، والآب والابن هما ذاتُ ما هو الروح القدس، أي الاله واحد بالطبيعة” (التعليم المسيحي 253). لكن يجب تأكيد ما قاله القديس أوغسطينوس: “هذا ما نتمسك به بحق وبغيرة شديدة، وهو أن الآب والابن والروح القدس ثالوث غير قابل للانفصال، إله واحد لا ثلاثة.”

اما كلمة أقنوم، أصلها من اللغة السريانية، وتعني “شخصا”. فنقول إن الآب أقنوم، والابن أقنوم، والروح القدس أقنوم. ولم تستخدم كلمة “شخص” لأن هذه الكلمة قد توحي بكائن بشري له حدوده وشكله وملامحه. فتحاشيا لكل تصور خاطئ ولكل تحديد للأشخاص، لجأت الكنيسة إلى كلمة غير عربيّة وهي اقنوم. وهي كلمة لا تستخدم في أي مجال آخر، ديني أو مدني، غير هذا المجال.

والأقانيم متميزون فيما بينهم بعلاقات مصدرهم: “الاب هو الذي يلد، والابن هو المولود، والروح القدس هو المنبثق” (التعليم المسيحي 254). وعليه فإن الله في وحدة الهية ثلاثية، وكل اقنوم إلهي يعمل العمل المشترك وفقا لميزته الشخصية كما جاء في تعليم الكنيسة “بالله الآب الذي منه كل شيء، بالرب يسوع المسيح الذي له كل شيء، وبالروح القدس الذي فيه كل شيء” وفقا لتعليم بولس الرسول “أَمَّا عِندَنا نَحنُ، فلَيسَ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير، ورَبٌّ واحِدٌ وهو يسوعُ المسيح، بِه كُلُّ شيَءٍ وبِه نَحنُ أَيضًا” (1 قورنتس 8:6).

وقد أوحى الله سر الثالوث مراعيا الزمن وقدرات البشر على قبوله. حدثنا العهد القديم جلياً عن وجود الآب وبدأ يكشف لنا بشكل سري عن الابن؛ أما العهد الجديد، فحدثنا بشكل واضح عن الابن وبدأ بالحديث عن ألوهية الروح القدس. ومن هنا نلقي نظرة خاطفة على الثالوث في العهد القديم والجديد وفي تعليم آباء الكنيسة وفي تعليم الكنيسة

ا) الثالوث في العهد القديم

لِمَا كان وحي العهد القديم ظلاً لوحي العهد الجديد كما جاء في الرسالة الى العبرانيين “لَمَّا كانَتِ الشَّريعَة تَشتَمِلُ على ظِلِّ الخَيراتِ المُستَقبَلَة، لا على تَجْسيدِ الحَقائِق نَفسِه ” (العبرانيين 10: 1)، وجب ألاَّ ننتظر في العهد القديم ذكرا صريحا الى سر الثالوث، بل فقط تلميحا. يتكلم الله غالبا عن نفسه باستعمال صيغة الجمع ” قالَ الله: ((لِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا ” (التكوين 1: 26). وفي العهد القديم يدعى الله אֱלֹהִים (آلوهيم ) ففي هذا إشارة الى هناك شخصين هما الله: شخص المرُسِل وشخص المُرسَل. (التكوين 16: 7-13).

والنبوءات التي تتعلق بالمسيح تفترض في الله أشخاصا مختلفين كما جاء في نبوءة أشعيا “لِأَنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ ودُعِيَ أسمُه عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام ” (اشعيا 9: 6). وجاء أيضا في المزامير ” قالَ لي: أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ” (المزمور 2: 7) وباختصار، الله هو “آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض، كل ما يرى وما لا يرى”.

ب) الثالوث في العهد الجديد

نجد في العهد الجديد نصوصاً واضحة عن سر الثالوث. في بشارة الملاك للعذراء نجد سر الثالوث” إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى” (لوقا 1/35)، ثلاثة اشخاص ورد ذكرهم: العلي، وَابنَ اللهِ والروح القدس. وفي عماد يسوع نجد الوحي بالثالوث: “فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه. وإِذا صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: “هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت” (متى 1/16): الذي يتكلم هو الله، الآبن هو يسوع ابن الله الوحيد، اما الروح القدس فيظهر في صورة رمزية خاصة ككائن شخصي مستقل اسوة بالآب والابن. فقد ظهر الثالوث الاقدس ظهورا متمايزًا، لكنه غير منفصل: الابن المتجسد خارجا من المياه لكي يهبنا الخروج من خطايانا لندخل به وفيه إلى شركة مجده، والروح القدس نازلاً على شكل حمامة ليقيم كنيسة المسيح، وصوت الآب صادرًا من السماء مُعلنا بنوتنا له في ابنه، ويقيم منا حجارة روحية لبناء الكنيسة الأبدية. هكذا ظهر الثالوث القدوس لبنياننا بالله.

وفي خطاب الوداع يتكلم يسوع عن الثالوث: “وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد (يوحنا 14/16). وأخيرا ترك السيد المسيح للرسل وصيته التي توضح لنا هدف رسالته ومعنى الثالوث الأقدس في الإيمان المسيحي: “اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس”(متى28: 19)، وصيغة المفرد في كلمة “اسم” تدل على وحدة الجوهر في كل من الاشخاص الثلاثة. ولم يقل “بأسماء” كأنها كيانات متعدّدة، بل إله واحد واسم واحد، بكلمته وروحه (2 قورنتس 13: 13). وباب الدخول في الثالوث الأقدس هو واحد، يسوع المسيح. فمن خلال موته وقيامته فتح يسوع لنا سبيلاً جديدًا وحيًا لكي ندخل في قدس أقداس الثالوث الأقد من خلال المعمودية والمعمودية تُبيِّن قدرة يسوع الفصحية في رسالة الكنيسة ولعلاقتها الوطيدة بالأقانيم الثلاثة. ومختصر القول، يعلّمنا الإنجيل المقدّس أنّ الاب والابن وروح القدس ما هم ألاّ الله وكلمته وروحه، كما أعلن بوضوح الرسول الحبيب يوحنّا، بإلهام من الله ووحي منه تعالى:” في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله” (يوحنا 1: 1) .

ويؤيد القديس بولس الرسول حقيقة الثالوث ببركة ثالوثية “لْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معَكُم جَميعًا” (2 قورنتس 13: 13). وقد دخل الربّ، الواحد والثالوث، في حوار مع الجنس البشري، ومع كلّ إنسان آتٍ إلى العالم. نقرأُ في الرسالة إلى العبرانيين: إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين. هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه، يَحفَظُ كُلَّ شيَءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِه” (عبرانيّين 1: 1-3). الثالوث هو أنه حوارُ الكلمة والنعمة والمحبة.

ج) الثالوث في تعليم آباء الكنيسة

لا تخلو تعاليم الآباء من شرح سر الثالوث: فالقديس أوغسطينوس مثلا ينطلق من تعليم يوحنا الرسول أن جوهر الله هو المحبة كما عرّفه يوحنا الرسول “اللهُ مَحبَّة “(1 يوحنا 4، 16)، فيعلق على ذلك بقوله “يتطلب الحب مَن يُحِبّ، من يُحَبّ، والحب عينه”. الآب، في الثالوث الأقدس هو المُحِبّ، نبع وأصل كل شيء؛ الابن هو المحبوب؛ الروح القدس هو الحُب الذي يربطهما”. يبين لنا الوحي الإلهي أن الله محبة منذ الأزل، لأنه قبل أن يوجد الكون كان الله الكلمة، الابن المحبوب حبًا أبديًا في المحبة التي هي الروح القدس. بالطبع إن مثال الحب ما هو إلا مثال بشري، ولكنه أفضل ما نعرفه لكي ندرك شيئًا ما عن أعماق الله الخفية في الثالوث الاقدس.

واما القديس غريغوريوس النزينزي فيشرح سر الثالوث انطلاقا من صاحب المزامير “نُعايِنُ النُورَ بِنورِكَ” (مزمور 36، 10). “من النور الذي هو الآب ندرك النور الذي هو الابن بنور الروح القدس: هذا هو لاهوت الثالوث الأقدس. باختصار، إن الله لا فصل فيه – إذا جاز التعبير – في أقانيم متمايزة عن بعضها”.

د) الثالوث في تعليم الكنيسة:
حدّد المجمع المسكوني الأوّل عقيدة الثالوث الأقدس باستعمال ثلاث لفظات: الأولى، “الجوهر” أو “الطبيعة” للدلالة على الكائن الإلهي في وحدانيّته. فنقول الثالوث الواحد. لا نؤمن بثلاثة آلهة بل بإله واحد في ثلاثة أقانيم، الثالوث المتساوي في الجوهر. الأشخاص الإلهيّة لا يتقاسمون الطبيعة الإلهية، بل كلّ شخص هو كلّ الجوهر والطبيعة.
اللفظة الثانية، “الشخص” أو “الأقنوم” للدلالة على الآب والابن والروح القدس في تمايزهم الحقيقيّ الواحد عن الآخر، من جهة علاقاتهم الأصليّة: الآب هو المصدر الذي يلد، لا يخلق، الابن هو المولود، الروح القدس هو الذي ينبثق. فنقول الوحدانيّة الإلهية هي ثالوث
اللفظة الثالثة، “العلاقة” للدلالة على أنّ واقع التمايز قائم في الارتباط بين الأشخاص: الآب مرتبط بالابن، والابن بالآب، والروح بالاثنين، والجوهر واحد. وكلّ واحد منهم هو كلّه للآخر.
وفي حوض الكنيسة ندرك حقيقة وحي الله كثالوث حب. نعبّر عن إيماننا بالثالوث في إشارة الصليب، وفي قلب الكنيسة نلاقي الافخارستيا التي تُعلمنا بأن القداس الإلهي هو فعل ثالوثي من أوله إلى آخره، يبدأ وينتهي باسم الثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس. وباسم الثالوث القدّوس تبدأ الكنيسة كلّ عمل وقول ومبادرة، ولمجده تُنهي ما بدأت. وفي الكنيسة، الروح يكشف لنا عن حضوره بشكل واضح فنعبّر عن إيماننا بمجد الثالوث. وفي خبرة الحياة المسيحية نغوص في عمق الثالوث الذي لا ينضب.

ويمكننا ان نفسر سر الثالوث في الوحدة، والتعددية في الوحدة من خلال امثلة من الطبيعة: مثال العين والينبوع والنهر. كما ان كل من العين والنبع والنهر هم عدديا واحدا وإن اختلفت الاشكال كذلك لا ينفصل الآب والابن والروح القدس بعضهم عن بعضهم وإن كانوا يتمايزون في ثلاثة اشخاص. وكما ان الشمس والشعاع والضوء هم جوهر واحد كذلك الأقانيم الثلاثة هم ذات الجوهر الواحد. رغم التعددية فليس هناك ابدا انقسام في الجوهر. هناك المساواة في الأقانيم الثلاثة، وهناك اشتراك في نفس الطبيعة الإلهية الواحدة. ويوضّح الكتّاب المسيحيون يوحنّا الدّمشقي وتاودوروس أبو قرّة وإبراهيم الطّبراني ويحيى بن عدي فكرة الثالوث بأجمل العبارات وأسهلها: “الله وكلمته وروحه”، “الله وعقله ومبدأ حياته” كما جاء في “التّكوين”، يجد المرء “الله وكلمته وروحه” (التكوين 1: 1). فالله واحد بكلمته وروحه.

2) كيف كشف يسوع وجه الله الثالوث الاقدس؟

يكشف يسوع سر الثالوث من خلال حواره مع نيقوديمُس (يوحنا 3: 1-21). نيقوديمُس اسم يوناني Νικόδημος معناه ” المنتصر على الشعب”، وهو فريسي، رجل عَالِم في دراسة التوراة والتقليد اليهودي، وعضو في السنهدريم، المجلس الأعلى للأمة اليهودية، وكان واحدا من رؤساء اليهود، وقد آمن أن يسوع جاء مِن لَدُنِ اللهِ (يوحنا 3: 2) فجاء اليه في الليل حتى لا يراه أحد ليشاوره ويباحثه في امر الولادة الثانية الروحية. وقد اقتنع بكلام يسوع ودافع عنه في السنهدريم لمَّا هاجمه الفريسيون (يوحنا 7: 50) ثم بعد ان مات يسوع عمل على تطييب جسده بالمُر ودفنه مجاهرا بإيمانه به (يوحنا 19: 39).

حاول نيقوديمس ان يفتش عن سر الثالوث بقواه الشخصية، فعجز عن ذلك، ولكنه تمكَّن ان يكشفه من خلال لقائه مع المسيح. فأدرك نيقوديمُس في بادئ الامر ان يسوع قد جاء من لدن الله، اذ قال له: ” راِّبي، نحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ جِئتَ مِن لَدُنِ اللهِ مُعَلِّماً، فما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَأَتِيَ بِتِلكَ الآياتِ الَّتي تَأتي بِها أَنتَ إِلاَّ إِذا كانَ اللهُ معَه”(يوحنا 3: 2). وأحسّ بانه في حضرة شخص أكبر من ” رابي”، ان الذي يكلمه يحمل في ذاته ” سراً مِن عَلُ ” لا يكشفه الا نور مِن عَلُ. فكشف يسوع له عن سر الثالوث الاقدس من خلال تكلمه عن محبة الاب والايمان بالابن وعون الروح القدس

ا) محبة الاب
المحبة هي المصدر الوحيد الّذي باستطاعته أن يفتح باباً على حقيقة الربّ. فقد كشف يسوع شخص الآب عن طريق محبته للعالم “إِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم (يوحنا 17: 17). غير ان البحث عن مصدر الخلاص يحتم علينا الغوص الى الحب الذي دفع الآب أن يعطي العالم أعز ما لديه: ابنه الواحد المولود. الحب الإلهي هو العنصر الديناميكي الدائم الحركة لتمتع العالم بالخلاص، وهو قبول مستمرّ للآخر وبذل الذات من أجل الآخر. ولم يكتفِ يسوع بالقول أنّ الربّ يُحبّنا، بل وضّح إلى أيّ حدّ بلغ هذا الحبّ ” فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة” (يوحنا 3: 16). إنّ الحب، عند الربّ، هو البذل الكامل للذات، حتّى عندما ينطوي هذا البذل على خسران كلّ شيء، والتضحية بالحياة، والموت في سبيل الآخر. فحبا لنا قد حقق الله التضحية بابنه التي طُلبت قديما من إبراهيم (التكوين 22: 2/ 8: 12-16). إن الله، عندما أسلم “ابنه الحبيب” للموت من أجلنا (مرقس 1: 11)، قد أثبت لنا (رومة 5: 8) أن “أنه يحب العالم” (يوحنا 3: 16). والدليل على أنه يحبنا بنفس الحب الذي يحب به ابنه الوحيد، وهبنا المحبة التي تجمع بين الآب والابن والتي هي الروح القدس.

واستطاع يوحنا الحبيب الذي عاش اختبار المحبة أن يُعبِّر عن حقيقة الله المثلث الأقانيم بتعريفه “الله محبة”(1 يوحنا 4: 8). إذ كشف الله، بإعطائه ابنه، أنه هو الذي يعطي نفسه حباً بنا “إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟” (رومه 8: 32). وإذ يحيا الابن الوحيد مع أبيه في حوار محبة مطلقة يكشف أيضاً أنه هو والآب “واحد” منذ الأزل كما صرّح يسوع في انجيل يوحنا “أَنا والآبُ واحِد”. (يوحنا 10: 30)، وأنه هو ذاته الله “الكَلِمَةُ هوَ الله “(يوحنا 1:1). ويعرِّفنا الابن الوحيد، الذي في حضن الآب، بالله الذي “ما رآهُ أَحدٌ” (يوحنا 1: 18). وهذا الإله الواحد قائم فيه وفي أبيه المتّحدين في الروح القدس. ويتحدث يسوع عن علاقته بالآب قائلاً الى فيلبس “أَلا تُؤِمِنُ بِأَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ؟” (يوحنا 14، 10)؛ كما تحدث الى اليهود قائلاً” أَنَّ الآبَ فيَّ وأَنيِّ في الآب” (يوحنا 10، 38).

وقد ساعد علم النفس على فهم خصائص الحب أنه “يوحّد دون أن يذيب الآخر او ضياع إثنايهما” كما جاء في كتاب “فن الحب” لعالم النفس أريك فروم. ويوضح الفيلسوف الكبير هيغل هذا الحب بتعريفه ” ان الحب هو تمييز بين اثنين بحيث يعيشا وعيًا مشتركًا، وهذا الوعي هو وعي يبيّن أنهما خارج ذواتهما من أجل الآخر”. فإن طبيعة الحب هي أنها توحد دون إزالة الاختلاف. الاختلاف ليس خلافًا أو انشقاقًا. وهذا النوع من الحب يظهر في الثالوث الأقدس بشكل كامل. فأقانيم الثالوث الأقدس هي متحدة لا لتشكل اختلاطًا عشوائيًا، بل لكي يكون أحدها في الآخر، إذا جاز التعبير.

ب) الايمان بالابن
ولا يعرف الانسان قيمة الحب إلا بواسطة الايمان. فالإيمان هو اندماج الانسان بكليته، قلبا وروحا في تصميم حب الله الخلاصي الذي تحقق بابنه يسوع المسيح؛ الايمان هو “نعم” الانسان لدعوته الإلهية في المسيح يسوع بواسطة الروح القدس. وقد ختم يسوع مجيئه الى هذا العالم بدينونة ” مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد” (يوحنا 17: 18). أن الفرّيسيّين لم يختاروا أن يؤمنوا بيسوع فقد اتّهموه بالتجديف، فأدانوا أنفسهم.

فأمام المسيح تنكشف الناس ويتميز بعضهم عن بعض تبعا لإيمانهم او لجحودهم، لان الانسان قادران يُفضِّل الشر على متطلبات الحقيقة، والظلمة على النور، ويهرب من المسيح، فلا يُقبل الى النور. يقودنا النص الإنجيلي من الايمان الناقص الى اكتشاف سر المسيح النور والخلاص، والى قبوله بدون تحفظ، وهذا الاعلان بالأيمان هو عمل الروح القدس فينا. كما وضّح يسوع في حواره مع نيقوديمس “فإِذا كُنتُم لا تُؤمِنونَ عِندَما أُكَلِّمُكم في أُمورِ الأَرْض فكَيفَ تُؤمِنونَ إِذا كلَّمتُكُم في أُمورِ السَّماء؟ “(يوحنا 3: 12). آمن أخيرا نيقوديمس ان يسوع هو بالحقيقة المسيح. فتكلم بجرأة وشجاعة مدافعا عنه (يوحنا 7: 50).

فالثالوث الأقدس هو جوهر إيماننا المسيحي ومحور الحياة المسيحية. إنّه سرّ الله بذاته. هو منبع كل الأسرار الأخرى للإيمان، وهو النور الذي ينيرها. هو التعليم الأساسيّ لحقائق الإيمان. “فالثالوث هو سرّ إيمان، سرٌّ لا يستطيع أن يدركه العقل البشريّ المجرّد، الا عن طريق تجسّد ابن الله وعمل الروح القدس” (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 237).

ج) معونة الروح القدس
الروح وحده قادر على ان يفتح عيون الانسان على النور العُلوي ويُدرك سر المسيح في الثالوث. ان سر المسيح هو سر الله الذي هو روح، أي الحياة ذاتها، مبدأ كل حياة (التكوين 2: 7). وهناك هوة كبيرة تفصل بين الخليقة (الجسد) وبين الله (الروح) (اشعيا 31: 3)، ويستحيل اجتيازها ما لم يأتِ الله بروحه لنجدة الانسان، ورفعه الى مستوى الروح ليجعله مشاركا في حياة سماوية وقادرا ان يفهم أمور السماء. ونعمة هذا النور تفترض ” ولادة من عل” كما أعلن يسوع لنيقوديمُس “ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَرى مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِن عَلُ” (يوحنا 3: 3)، “إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح” (يوحنا 3: 5). إن الروح القدس يعطي الحياة جديدة من السماء (يوحنا 3: 6). هذا هو سر المسيح يأتي مِن عَلُ (يوحنا 3: 13) والانسان لا يبلغ هذا السر الا بنعمة تجديد جذرية، ولا يحققه الا بنعمة الروح القدس، لان يسوع المسيح ربط سر تجديد الانسان بمجيء ابن الله الى العالم، وارتفاعه على الصليب (يوحنا 17: 5-24).

يدعونا النص الانجيلي ان نتفحص غناه وعمقه ونتائجه العملية. لا يمكننا أن نحيط بالثالوث الأقدس فكريًا، كما قال العلامة اوغسطينوس ” لو كنت تفهمه لما كان الله”، ولكن يمكننا أن نلج فيه! وإذا لم يكن باستطاعتنا أن نغمر المحيط بأيدينا يمكننا أن نغوص فيه؛ وفي هذا الصدد تقول القدّيسة تيريزيا الآبِليّة ” كلّما عجزت عن فهم هذه الأمور، ازداد إيماني وازدادت عبادتي. فليتقدّس اسم الربّ من الآن وللأبد. آمين”. وإن قيل إن هذا التعليم فوق إدراكنا، قلنا ذلك لا يفسده، وإن قيل إن جوهرًا واحد ذا ثلاثة أقانيم محال، قلنا تلك دعوى بلا برهان، وأن عقولنا القاصرة لم تخلق مقياسًا للممكن، وغير الممكن، مما فوق إدراكها.

الحياة المسيحية هي بمثابة شركة مع كل من الأقانيم الالهية: ألآب والابن والروح القدس. من يمجّد الآب يمجّدُه بالابن في الروح القدس، ومن يتبع المسيح يتبع الآب، لان الآب يُجذبه كما جاء في قول يسوع “ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ، إِّلا إِذا اجتَذَبَه الآبُ الَّذي أرسَلَني”(يوحنا 6: 44)، ولانّ الروح القدس يُحرِّكه كما يؤكد بولس الرسول “إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا” (رومة 8: 14). ومختصر القول، أن أكون مسيحياً يعني أن أستطيع القول مع الرّب يسوع “أبانا” وأن أصبح بذات الفعل “ابناً” أي ابناً لله الآب في وحدة الرّوح القدس الّذي يقودنا إلى الوحدة مع الله. وصدق صاحب كتاب “الاقتداء بالمسيح” عندما قال: “لا ينفعك شيئًا فهم الثالوث الأقدس إذا خلوت من التواضع الذي يجعلك مرضيًا لدى الثالوث”.

الخلاصة
دخل نيقوديمس في حوار سري مع السيد المسيح طلبا في رؤية وجه الله، فأكد له السيد المسيح بأنه حاجة إلى الميلاد الثاني الجديد خلال المعمودية بالماء والروح. وترتبط المعمودية بالصليب حيث يعلن الآب حبَّه لكل البشرية ببذل ابنه لكي يتمتع المؤمنين به بالبنوَّة في الحياة الأبدية.

والمعمودية هي موت مع المسيح وقيامة معه متحدين به ” أَوَتَجهَلونَ أَنَّنا، وقَدِ اَعتَمَدْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَدْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة كما أُقيمَ المَسيحُ مِن بَينِ الأَمواتِ بِمَجْدِ الآب؟ ” (رومة 6: 3-4). ومن هنا كشف يسوع وجه الله، الآب المُحب الذي أرسل ابنه المخلص ليهب الروح المحيي. فالمعمودية تضعنا في ملء الثالوث القدوس وتجعلنا في علاقة وثيقة بكل واحد من الأشخاص الإلهية الثلاثة، والثالوث القدوس يدخلنا بواسطة المعمودية في عالم الحياة الروحيّة الجديدة التي هي عطاء ينبثق من الأقانيم الإلهية الثلاثة.

وتشكّل عقيدة الثالوث الأقدس جوهر الحياة المسيحيّة فهي ليست حصيلة تفكير بشري نظري في الله، بل هي تعبير عن إيمان المسيحيّة منذ نشأتها بظهور لله ظهوراً نهائياً وخلاصيّاً في شخص يسوع المسيح.

وفي عيد الثالوث الأقدس، لنجدّد إيماننا بالربّ الواحد والمثلّث الأقانيم: بالآب الذي أحبّنا وخلقنا ويعتني بنا، وبالابن يسوع المسيح، الذي افتدانا وخلّصنا بموته وقيامته، وبالروح القدس الذي يتمّم فينا ثمار الفداء والخلاص، ويحيينا ويقدّسنا. لذا فنحن مدعوون إلى أن نعيش ونجسّد ما نعرفه عن الثالوث في حياتنا المسيحيّة. لقد ردّد البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني:” نحن المسيحيون نعرف الكثير، لكننا نعيش القليل”، فنحن بحاجة دوماً إلى من يذكّرنا. نحن مدعوون أيضا ان نترك زمام أمرنا للربّ في كل حياتنا ليقودنا بحسب مشيئته، وهذا ما نخشى دوماً أن نفعله. وفي هذا الصدد يقول القديس أغناطيوس دي لويولا:” قليلون جدّاً يدركون ما سيصنع الربّ بهم إذا وضعوا أنفسهم كلّياً بين يديه فتشكّلهم نعمته وتكّونهم”. فالله ليس كائنا نتحدث عنه بمقدار ما هو كائن نحبّه ونصغي اليه. ندركه بالحب، ونبلغه بالإيمان ونكتشفه بالصلاة.

دعاء
نسجد لك أيها الثالوث القدّوس، إنك الإله الذي دعوتنا منذ معموديتنا إلى الاتحاد بك وما زلت تظهر ذاتك لنا وتسير فيما بيننا ونحن ما زلنا نخشى من أن نثق بك. دعنا نقف أمامك بكلّ ضعفنا لنتبعك. اجعلنا نشعر بالصفح والغفران مع ماضي تاريخنا بكلّ نجاحاته وإخفاقاته، وندرك بأن الشدائد والآلام التي نختبرها والخطايا التي كثيراً ما نكون ضحيّتها تعلّمنا دروساً تقودنا دوماً نحو سّر خلاصك. لهذا ولأجل كل شيء نسبحك ونباركك ونمجدك وانت واحد مع يسوع ابنك الوحيد الحبيب ومع الروح القدس مسبحين مع اشعيا النبي ” قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس، رَبُّ القُوَّات، الأَرضُ كُلُّها مَمْلوءَةٌ مِن مَجدِه” (اشعيا 6: 3) ومرنِّمين مع القديسين في السماء ” قدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس الرَّبُّ الإِلهُ القَدير الَّذي كاَنَ وهو كائِنٌ وسيَأتي (رؤيا 4: 8).