العظة الكنسيّة
البطريرك بيتسابالا
يحتوي الفصل الثامن عشر من بشارة القدّيس متّى على العظة الرابعة من سلسلة عظات يسوع الخمس المذكورة في الإنجيل الأول. وهي تُسمّى العظة الكنسيّة، لأنها تعالج موضوع العلاقات بين أعضاء الجماعة الجديدة الّتي وُلدت من فصح الربّ.
في الحديث عن العلاقات، لا يمكن للإنسان أن يفوته التفكير في الشرّ، وفي الخطيئة، وفي بذل الجهد للالتقاء والمصالحة والعيش معاً: إنّ أحد الأسئلة الّتي يتوجّب على كلّ مقترح ديني الإجابة عليه هو تحديداً، كيفيّة مواجهة الشرّ الّذي يزحف داخل المجتمع البشريّ. إن الشرّ موجود، ونحن نختبره كلّ يوم.
يقول يسوع في المقطع الإنجيلي لهذا الأحد: إنّ مواجهة هذه المشكلة تتطلّب عملاً طويلاً ودؤوباً. فليست أمراً يمكن حلّه في لحظة واحدة.
وبالتالي، حتّى إذا أخطأ اخٌ في حقّي، فمن المحيّر والغريب بالنسبة لي أن يكون المسئول عن التحرّك هو أنا، وليس هو. يُملي المنطق البشري أن يقوم من أخطأ باتّخاذ الخطوة الأولى. أمّا بالنسبة ليسوع فإنّ الأمر ليس كذلك: على من تضرّر واجب اتّخاذ سلسلة من الإجراءات، لأنّ الأخ الّذي في خطر هو مسبِّب الشرّ، وليس فقط من يعاني منه. وليس لمن عانى من الشرّ أيّ حقّ آخر سوى مساعدته.
وهكذا، يتوجّب على من عانى من الشرّ “الذهاب” والوصول بمفرده إلى الطرف الآخر، من أجل “تحذيره” (متّى ١٨، ١٥). ينبغي أن يتخلّى عن وضعه كشخص قد أُسيء إليه، منتظراً الاعتذار، وأن ينسى للحظة أنه صاحب حقّ، وأن ينطلق في مسيرة نحو الآخر. إنّ هذا السير هو جسديّ، ولكنّه، قبل ذلك، سير نفسي وروحيّ أيضاً. وإن لم تكن المحاولة الأولى كافية، فيجب تكرارها مرّة أخرى برفقة أشخاص آخرين، وأخيراً، مرّة ثالثة، برفقة الجماعة كلّها (متّى ١٨، ١٦–١٧).
ولذلك، فإنّ هناك عملية مكّوكيّة متكررة تقوم على الذهاب إلى الأخ والرجوع من عنده، وهناك حاجة إلى عدم تركه وحيداً في شرّه: إنّ العفو هو هذا الانتقال منه وإليه، دون كلل. وكلّما كان شرّه أعمق، وكلّما كانت العزلة الّتي يتعرض لها أعمق، كلّما ازدادت ضرورة حضور الإخوة حوله: إن ما يجب عزله هو الشرّ، وليس الأخ الّذي ارتكبه.
نحن نذهب إلى الأخ الّذي ارتكب خطيئة ما ليس لمجّرد لومه، ولا لمعاقبته، بل لتحذيره: نحن، بالتالي، نذهب إليه كي نشفيه، على مثال الراعي الّذي يشفي الخروف الضال في المثل الإنجيلي الّذي يسبق المقطع الّذي نحن بصدده مباشرة (متّى ١٨، ١٢–١٤). إن البعيد ليس فقط من يُخرج نفسه من الجماعة، بل هو أيضاً من ينغلق على نفسه في خطيئته الشخصيّة، منفصلاً عن الآخرين.
إنّ فعل “وبّخ” الّذي يستخدمه متّى يعني في واقع الأمر“أقنع“،” بيّن” أو “أُظهر“: وهذا الفعل، في بشارة يوحنّا، خاصّ بالروح القدس، الّذي “متى جاء، أخزى العالم على الخطيئة والبرّ والدينونة” (يوحنّا ١٦، ٨).
من الضروري، في البداية، التأكّد من أن يُقرّ الأخ بخطئه الشخصي: إنّ الذهاب المستمرّ إليه يهدف إلى هذا، إلى أن يعي واقع الشرّ الّذي يسكن فيه، حيث أن هذه الخطوة ضروريّة لأيّة مصالحة ممكنة ومن أجل استعادة الوحدة. في حين يُحاول الشرّ البقاء مستتراً، فإنّ عمل الروح القدس يسعى إلى فضحه من خلال الإخوة، بكلّ ثمن.
وهذا العمل لا يمكن أن يكون سوى عملاً جماعيًا، فهو عمل يُشرك ويُشغل الجميع على حدّ سواء؛ وهو يُعرّض الجميع لسيف الحقيقة، ويُعرّي قلوب الجميع. إنّ الانطلاق نحو أخي محفوف بالمخاطر.
ولكن لماذا كلّ هذا العمل، وكلّ هذا الجهد والتعب؟ يُخبرنا الإنجيل أنّ هناك دافعين أساسيّين له.
الدافع الأوّل هو أنّك بهذا العمل تكون قد ربحتَ أخاك (متّى ١٨، ١٦): إذا كان الكنز الحقيقيّ يكمن في العلاقات والصداقات البشرية لا بل في الأخوّة ذاتها، فإن كلّ أخ هو خير وقيمة لا تُقدّر بثمن، ولا بديل له، وينبغي الإعتناء به. ولا يجوز أن نفقده باستخفاف. أمّا الدافع الثاني والمذكور في الآيات الختاميّة هو حضور الرب (متّى ١٨، ٢٠): عندما تكون هذه المبادرة فاعلة، وعندما تُستعاد الصداقة، فلا بد حينها من أن يكون الرب حاضرا فعليا في الجماعة.
إنّ هذا العمل وهذا التعب، يمكن، في الواقع، أن يفشلا: ليس هناك أيّة ضمانة لنجاحه (متّى ١٨، ١٧). آنذاك فليكن الأخ عندك “كالوثنيّ والعشّار“، وهذا لا يعني بالضرورة إقصاء الأخ عن الجماعة. ولكنّه يعني أنّ المسافة لا تزال قائمة، وهي مسافة مؤلمة.
قد تكون الصلاة فعّالة في ملء هذه المسافة: “إذا اتّفق اثنان منكم في الأرض على طلب أيّة حاجة كانت، حصلا عليها من أبي الّذي في السموات” (متّى ١٨، ١٩).
إنّ الجماعة المولودة من فصح الربّ هي جماعة من الفقراء، الّذين يُعانون كلّ يوم من تعب العيش معاً وإمكانيّة المصالحة الصابرة والشاقّة.
وبمجرّد استعادة السلام، فإنّ الجماعة تُصلّي لأولئك الإخوة الّذين لا يزالون بعيدين بقلوبهم، كي تصلهم أيضاً عطيّة حياة الربّ القائم الجديدة، وكي لا يهلك أيّ أحد منهم (متّى ١٨، ١٤).
+بييرباتيستا