“رسوخ شهادة المسيح” فينا (عن قورنثس الأولى 1 : 3-9، مرقس 13 : 33-37)
الأب بيتر مدروس
زار قداسة البابا فرنسيس بطريركَ القسطنطينيّة المسكونيّ برتلماوس (سنة 2014 ) . وكانت تلك الزيارة مناسبة جديدة للحوار والتّقارب الحقيقيّين. ويسعد المرء أن يرى في “الحبرَين” تحقيق أصل هذه اللفظة العبريّ חברوتعني “صديقَين”. بل هما أخوان شقيقان أحدهما خليفة القدّيس بطرس في “روما العظمى” والآخر يُعتقَد أنه يخلف القدّيس أندرواس شقيق أمير الرّسل. كِلا “الحَبرَين” يتمّم بتألّق وصيّة رسول الأمم الإناء المختار بولس إلى أهل رومة : “لتكن المحبّة بلا رياء” (12 : 9). اللّفظة اليونانيّة الأصليّة معبّرة: “آن – هيبوقريتوس ” ανυποκριτος أي “غير مرائية” ، ترفض ازدواجيّة القلب واللّسان التي تصفها العرب ب “القلب القُلّب”. البغض أبعدنا والحبّ يقرّبنا ، الرّياء دمّر خلقًا من الكتبة والفرّيسيّين والربابينيين و”رجال دين” مسيحيّين كثيرًا. “قُبلة يهوذا” تمّت أحيانًا – منذ نحو خمسين سنة حيث بدأت الحركة المسكونيّة – بين أساقفة كاثوليك وأرثوذكس. ولكن ما من أحد يشكّ في صدق العناق الأخويّ التّاريخيّ البطوليّ بين البابا بولس السّادس والبطريرك أثيناغوراس الأوّل في القدس زهرة المدائن وأمّ الكنائس (سنة 1964). ومعروفة مودّة قداسة البطريرك المسكونيّ برتلماوس للكنيسة الكاثوليكيّة . فقداسته درس في المعهد الشّرقيّ في روما ويتقن الإيطاليّة. واشتهر بالورع والتّواضع وسعة الآفاق ورحابة الصّدر.
وأخوّة روما حيث الخلافة البطرسيّة “والكرسيّ الرسوليّ ،مقرّ العقائد القويمة”(مار صفرونيوس المقدسيّ) والقسطنطينيّة “روما الجديدة” وطيدة ليس فقط لأنّ الشّعبَين – أصلاً- اليونانيّ والإيطاليّ- خصوصًا الجنوبيّ -“وجه واحد وعِرق واحد” “una faccia una razza- ففي جزيرة صقلّية من المعابد الإغريقيّة ما يفوق عددها في بلاد اليونان ذاتها، بل أيضًا لأنّ الطّقس اللاتينيّ – المستمدّ طبعًا من “ليترجية القديس يعقوب الآراميّة- نشأ لا باللاتينيّة بل باليونانيّة، ولأنّ المدينتَين – حتّى انشقاق سنة 1054 – حافظتا على الإيمان القويم أمام الهرطقات ومنها “الطّبيعة الواحدة” فاستأهلتا لقب “الملكيّتين”. ومن الطّريف أنّ الكنيسة وعقيدتها نُسبتا إلى الإمبراطور البيزنطيّ Βασιλεύς كأنّهما للملك تابعتان ، في حين أنّ الإمبراطور (عن اقتناع أو عن سياسة) هو الذي كان يتبع إيمان الكنيسة! وكما أتى الانشقاق بسبب “العاصمة” والتّذبذب بين روما القديمة والجديدة – فسوف تأتي الوحدة إن شاء الرّبّ من هاتين العاصمَتين.
ونكرّر أسفنا أنّ بطريرك القسطنطينيّة ، منذ أن كان أسقف بيزنطة يوحنّا الصّوّام (582-595) قد أطلقه على نفسه رغم البابوَين بيلاجيوس الثّاني وغريغوريوس الأوّل – يحمل لقب “المسكونيّ” ، “لا يحكم” أي لا ينعم بأيّة سلطة ولا صلاحيّات إداريّة عاديّة على سائر البطاركة الأربعة عشر للرّوم الأرثوذكس بل هو رئيس فخريّ أولوّيته “مكانة شرف” πρεσβεία τιμής “بعد أُسقف رومة” (مجمع القسطنطينيّة الأوّل ، المادّة الثّالثة). وهذا من سوء حظّنا ! فبطاركة القسطنطينيّة – التي أصبحت “إسطنبول” في تحريف تركمانيّ لعبارة “إيس تين بولي Είς τήν Πόλι” الّتي تعني “في المدينة” وحيث أمسى المسيحيّون “قليلين أذلاّء صاغرين لشديد وطأة العناء والشّقاء، وقد انصبّ الهوان على الأمراء” (مزمور 107 (106) : 39-40)- بطاركة بيزنطة أكثر إدراكًا من سواهم – أو دون غيرهم – بضرورة العودة إلى الوحدة مع روما. وفي العربيّة تشترك الكنيستان الشّقيقتان في الاسم الرّومانيّ فالكنيسة الكاثوليكيّة الرّومانيّة المدعوّة “لاتينيّة” نسبة إلى مقاطعة اللاتيوم أو اللاتسيوم Latiumالتي عاصمتها روما – هي لغويًّا كنيسة “الرّوم” وهي كنيسة بيزنطية- القسطنطينيّة- “إسطنبول” التي هي “روما الجديدة”.
أيّها القورنثيّون المهتدون إلى نور المسيح : “لقد أُغنيتم في يسوع كلّ الغنى” ( 1 قور 1: 3)
لا يتردّد الرّسول في مدح المؤمنين الجدد الذين حصلوا على “النّعمة” المبرّرة وقد انتشلتهم من موبقات مدينتهم ووثنيّتهم ومن مستنقعات يهوديّة تلموديّتهم ! قبولهم ليسوع غيّر حياتهم إلى الأفضل وسما بهم من الدنيويّة إلى الرّوحانيّة، ومن الشّهوانيّة إلى القناعة وضبط النّفس، ومن الكبرياء إلى التّواضع، ومن الكراهيّة إلى المودّة، ومن العيب إلى إرادة الكمال. أصبحوا أثرياء “في فنون الكلام وأنواع المعرفة”، منتقلين من مدارس الفصاحة والبلاغة التي عرفتها قورنثوس متسامين من “حبّ البلاغة” إلى بلاغة الحبّ ومن “فنّ الكلام” إلى كلام الفنّ. أمّا “المعرفة” والحكمة والفلسفة التي كان يتشدّق بها ، أحيانًا بصواب، قوم قورنثوس، وافتخارهم بأنّ العبقريّ ديوجينيس كان من مواطنيهم وابناء مدينتهم ، فقد رفعت “نعمة المسيح” فيهم مستوى العلوم والفنون والآداب من علم المخلوقات إلى معرفة الخالق الفادي. وكلّلت الكلّ “كلمة الصّليب” التي كانت “عند الهالكين جهالة”!
أيّها المسيحيّون المعاصرون ، “استيقظوا” وعودوا إلى الأعالي!
نشهد ، والحقّ يقال ، حتّى في شرقنا وفي بلادنا الفلسطينيّة المقدّسة ، عودة بطيئة أو سريعة عند بعض القوم إلى الوثنيّة ، بخلاف نهج القورنثيين وسائر المهتدين! في الغرب “شرائع” غير مشروعة تجيز الإجهاض والقتل الرّحيم واتّحاد بشر من ذات الجنس وتبنّيهم لأطفال (!) ، و”صرعة” المحاكاة عندنا لمركّب نقص ألمّ بنا نحن الشّرقيّين! نريد أن نكون “معاصرين” يعني بالعربيّة “مودرن”modern(!!!) وبدأت زيجات عندنا تنهار بعد أشهُر من الإكليل. وسرحت فتيات منّا ومرحن ، خصوصًا القادمات من الغرب ! وتنافست بعض عائلاتنا بالتفاهة والسّخافة وكثرة المصاريف غير الضّروريّة(خصوصًا في الأعراس) والمظاهر التي تنمّ عن “جنون عظمة” وهي أيضًا مركّب نقص. وكثر بيننا “الأطفال المدلّلون” والبنات المدلّلات الذين بقوا أطفالاً حتّى في سنّ السّبعين لوفرة الدلع الذي أمسى ولعًا!
خاتمة
متى سنصحو وقاتلو المسيحيين على الأبواب ؟ هل سنبقى في “نشوة القسطنطينيّة” العاصمة الإمبراطوريّة ونحن لا نعمل لسقوطها حسابًا كما حصل سنة 1453 م ، فلا ينصر أحدنا أخاه بسبب الانشقاق والتّعصب والطائفيّة الدّاخليّة والنعرات؟ وهل سنستمرّ وقت حصار “القسطنطينيّة” في جدالاتنا البيزنطيّة حول “المنبثق من الآب والابن” و “خبز الفطير أم الخمير” ولحية الكهنة أو عدمها وحول “جنس الملائكة” ؟
أسنستمرّ في أبرشيّاتنا ورعايانا ومدارسنا وعائلاتنا ومؤسساتنا في النوم في حين لا ينام خصوم المسيح لحظة ، لا في الغرب ولا في الشّرق ، بين غرب ملحد وشرق متشدّد؟ أستبقى بيوتنا وكنائسنا ومدارسنا “كرومًا نامت نواطيرها” ونحن مثل بطرس ويعقوب ويوحنّا في السّبات غارقون ويسوع ينازع في بستان الزّيتون؟