التعليم بالأمثال: مثل الكنز واللؤلؤة والشبكة (متى 13: 44-52)

الأب لويس حزبون

يُسلط إنجيل الاحد (متى 13: 44-52) الأضواء على تعليم يسوع عن فرح الملكوت وقيمته من خلال مثل الكنز وجماله من خلال مثل اللؤلؤة (متى 13: 44-45) وعدم خسارته من خلال مثل الشبكة (متى 13: 47-50)؛ وملكوت السماوات ثمين جداً، ويستحق التضحية بكل شيء للحصول عليه حيث ان الملكوت هو المسيح الكنز واللؤلؤة الكريمة؛ ولا يستطيع أحد ان يقتني السيد المسيح، ما لم يبع ا كل ما يملك؛ ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 13: 44-52)
44 ((مَثَلُ مَلَكوتِ السَّمَوات كَمَثَلِ كَنْزٍ دُفِنَ في حَقْلٍ وَجدَه رَجُلٌ فأَعادَ دَفنَه، ثُمَّ مَضى لِشِدَّةِ فَرَحِه فباعَ جميعَ ما يَملِكُ واشتَرى ذلكَ الحَقْل.
تشير عبارة “مَثَلُ” الى كلمات رمزية وإيحائية من خلال صور وتشابيه وليست افكارا مجرَّدة. أمَّا عبارة “رَجُلٌ” فتشير الى السيد المسيح الذي بذل كل ما عنده ليقتني الكنز المكوّن من شعبه او يشير الى الخاطئ الذي يبذل كل شيء ليقتني الخلاص. امَّا عبارة “كنز” فتشير الى شيء مرغوب فيه، وشيء يعثر في طريقه. وإذا عُثر رجل عليه، فإنّه يكتسب قيمةً لا تُضاهى وبالتالي يثير الحسد وحب الامتلاك. اما عبارة ” وَجدَه ” فتشير الى ما ورد في مثل الخروف الضال، عن مجهود الراعي وهو يبحث عن الخروف الضال حتى يجده وفرحته عندما وجده (لوقا 15: 4-6). أمّا عبارة ” كَنْزٍ دُفِنَ ” فتشير الى عادة قديمة حيث كالناس قديما يخفون الفضة في حقل لئلا تصل اليها ايدي اللصوص. إذ ان في فلسطين زمن يسوع لم يعرف الناس البنوك ولا الخزنة الحديدية التي تملكها الشركات اليوم لإيداع مدّخراتها، بل كانوا يدفنون مالهم في مكان خفي. وربما حدث ان مات مالك الكنز قبل ان يكشف عن المخبأ. اما عبارة ” أَعادَ دَفنَه ” فتشير الى غيرته وحرصه على الكنز؛ اما عبارة “لفرح” فتشير الى النتيجة الذي يريد يسوع ان يصل اليها. اما عبارة ” فباعَ جميعَ ما يَملِكُ ” فتشير الى واجب بيع كل ما يملكه الانسان ويضحي به ليشتري الحقل ويحصل على فرح الملكوت كما قال السيد المسيح للشاب الغني “إِذا أَرَدتَ أَن تكونَ كامِلاً، فاذْهَبْ وبعْ أَموالَكَ وأَعْطِها لِلفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فاتبَعْني ” (متى 19: 21). فمن باع كل ما يملك لم يخسر شيئاً بل كسب كل شيء، لأنه كسب المسيح وملكوته. اما عبارة ” اشتَرى ذلكَ الحَقْل ” فتشير الى السيد المسيح الذي اشترى نفوسنا بدمه كما ورد على لسان بولس الرسول ” فقَدِ اشتُريتم وأُدِّيَ الثَّمَن” (1 قورنتس 6: 20)، وقد تشير ايضا الى كل انسان يبحث عن الفرح في امتلاك المسيح وملكوته.
45 ((ومَثَلُ ملكوتِ السَّمَوات كمَثَلِ تاجِرٍ كانَ يطلُبُ اللُّؤلُؤَ الكريم، 46فَوجَدَ لُؤلُؤةً ثَمينة، فمضى وباعَ جَميعَ ما يَملِك واشتَراها
تشير عبارة ” يطلُبُ اللُّؤلُؤَ الكريم ” الى البحث عن اللؤلؤة كما يفعل من يجمع الأشياء الثمينة، أي يذهب من مكان إلى مكان باحثًا عنها. والمسيح قال عن نفسه” لِأَنَّ ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه”(لوقا 19: 10). ولا يكفي ان نعثر على اللؤلؤة صدفة كما هو الحال في مثل الكنز الدفين. اما عبارة ” فمضى وباعَ جَميعَ ما يَملِك واشتَراها” فتشير الى بيع ما نملك، بل التخلي عن كل شيء عند ذاك لنحصل على الفرح الذي يقدّمه الملكوت. ويعلق القديس اكليمندس الاسكندري ” البيع ليس عمليّة حرفيّة مظهريّة، لكنها انسحاب القلب نحو الله لاقتناء الملكوت السماوي كسرّ حياتنا”.
47 ((ومَثَلُ ملكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ شَبَكةٍ أُلقِيَت في البَحر فجَمعَت مِن كُلِّ جِنْس.
تشير عبارة “البحر ” الى بحر الجليل (متى 4: 18) أي بحيرة طبرية. اما عبارة ” فجَمعَت مِن كُلِّ جِنْس” فتشير الى طبيعة هذا النوع من الشباك أنّها لا تختار ولا تُميّز بين أنواع السمك، انها تجمع خليطأً من السمك الصالح والطالح، كما في مثل الزؤان والقمح، الاشرار والابرار كما ورد في مثل وليمة الملك “فجمَعوا كُلَّ مَن وجَدوا مِن أَشْرارٍ وأَخيار” (متى 22: 10). لم يرد يسوع ان ينشئ كنيسة مكوّنة من الابرار الكاملين، بل كنيسة تجمع من كل جنس من اخيار واشرار بانتظار الكمال في الحياة الأخرى.
48فلَمَّا امتَلأَت أَخرَجَها الصَّيَّادونَ إِلى الشَّاطِئ وجَلَسُوا فجَمَعوا الطَّيِّبَ في سِلالٍ وطَرَحوا الخَبيث.
تشير عبارة ” الصَّيَّادونَ ” الى نسبة كبيرة من اهل الجليل في عصر المسيح كانوا يشتغلون في صناعة صيد الأسماك، وكان السمك لهم من اهم أنواع الغذاء، وكانوا يجففون الفائض منه ويصدرونها الى الخارج. اما عبارة “جلسوا ” فتشير الى جلوس المسيح ورسله على كرسي الدينونة كما جاء في تعليم يسوع لرسله ” أَنتُم الَّذينَ تَبِعوني، متى جلَسَ ابنُ الإِنسانِ على عَرشِ مَجدِه عِندما يُجَدَّدُ كُلُّ شَيء، تَجلِسونَ أَنتم أَيضاً على اثنَي عَشَرَ عَرْشاً، لِتَدينوا أَسباطَ إِسرائيلَ الاثَنيْ عَشَر”(متى 19: 28)؛ اما عبارة “فجَمَعوا الطَّيِّبَ في سِلالٍ وطَرَحوا الخَبيث” فتشير الى الصيادين الذي يضعون في سلال السمك الطيّب، ويطرحون السمك الرديء بعيداً. فهؤلاء الصيادون هم رمز للملائمة الذين جاؤوا باسم ابن الانسان ليفصلوا الاشرار عن الابرار.
49وكذلِك يكونُ عِنْدَ نِهايةِ العالَم: يَأتي المَلائِكَةُ فيَفصِلونَ الأَشرارَ عنِ الأَخيار،
تشير عبارة “عِنْدَ نِهايةِ العالَم” الى التصفية ألنهائية التي هي من عمل الله. يقول القديس يعقوب ” لَيسَ هُناك إِلاَّ مُشتَرِعٌ واحِدٌ ودَيَّانٌ واحِد، وهو القادِرُ على أَن يُخَلِّصَ ويُهلِك. فمَن أَنتَ لِتَدينَ القَريب؟ ” (يعقوب 4: 12). وكل فصل او فرز سابق لأوانه مرفوض. اما عبارة ” يَأتي المَلائِكَةُ ” فتشير الى الحصادين الذين يخرجون الى الحقل أكثر منها الى الصيادين الذين يجلسون على الشاطئ.
50ويَقذِفونَ بِهم في أَتُّونِ النَّار. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان.
تشير عبارة “ويَقذِفونَ بِهم في أَتُّونِ النَّار ” الى تحذير من خطورة الموقف حول مصير الأشرار وهو رميهم في أتون النار أي الموت الابدي، ونداء للأبرار كي يختاروا فرح الملكوت لا البكاء. اما عبارة ” فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان ” الى استياء الكفار وغضبهم أمام سعادة الأبرار (متى 16: 9) كما وصف صاحب المزامير ” مع الفُجَّارِ يَسخَرون وعلَيَّ الأَسنان يَصرِفون ” (مزمور 35: 16). وهي رموز معبّرة وقوية يريد يسوع بها ايقاظ ضمائرنا،
51 ((أَفَهِمتُم هذا كُلَّه؟)) قالوا لَه: ((نَعَم)).
تشير عبارة ” فَهِمتُم ” الى الانتباه الى تعليم يسوع والالتزام في طاعة جديدة. الفهم يتكوّن من الإصغاء الى تعليم يسوع، والالتزام بما يطلبه كما قال يسوع للجمع “اِسمَعوا وافهَموا”(متى 15: 10). ولفعل “فهم” دور هام في انجيل متى. فالمطلوب من الانسان تجاه يسوع وامام اسرار الملكوت واسئلة التي تتناول المسائل العلمية ان يصغي ويفهم (متى 13: 13 -14 و16: 12).
52فقالَ لَهم: ((لِذلكَ كُلُّ كاتِبٍ تَتَلمَذَ لِمَلكوتِ السَّمَوات يُشبِهُ رَبَّ بَيتٍ يُخرِجُ مِن كَنزِه كُلَّ جَديدٍ وقَديم)).
تشير عبارة ” كاتِبٍ تَتَلمَذَ لِمَلكوتِ السَّمَوات ” الى كل سامع “فهم” تعليم يسوع؛ هذا يعني انه كان بين سامعي يسوع، فئة من المتعلمين، بحيث لم يكونوا كلهم من الاميين (اعمال الرسل 4: 13)، ولا من الرعاع (يوحنا 7: 49). او يشير الى متى الإنجيلي الذي صار مسيحيا. اما عبارة ” كَنزِه ” فتشير إمَّا الى تعليم الكتبة اليهود التقليدي بعد ان جدّده الايمان بالمسيح، وإمّا الى تعليم العهد القديم كما تمّ في فم يسوع، وأعلن بواسطة الرسل في الجماعات المسيحية الأولى. وقد وصفه متى الإنجيلي هنا بأنه ينبوع الأمور القديمة والجديدة التي يسعى الى عرضها على جماعته. هناك فوائد مزدوجة لمن يفهمون ويستخدمون العهدين القديم والجديد. فأسفار العهد القديم تُعرفنا الطريق الى يسوع المسيح، وقد ايَّد يسوع سلطانها وجدارتها بالثقة. اما العهد الجديد فيعلن لنا المسيح نفسه المتاح الآن لكل من يقبل ملكوته الروحي. ولكن قادة الدين اليهودي كانوا يتطلعون الى ملكوت دنيوي زمني لذا كانوا عميانا بالمعنى الروحي للملكوت الذي اتى به المسيح. اما عبارة ” كُلَّ جَديدٍ وقَديم ” فتشير الى الأشياء الجديدة والعتيقة. ان التلاميذ يجب ان يصيروا هم أنفسهم معلمين يُخرجون مواد الحق الجديد من كنز ما تعلموه من السيد المسيح، وفي نفس الوقت يُخرجون الجمال الداخلي والمعنى الصادق من كنز تعليم العهد القديم.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 13: 44-52)

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 13: 44-52)، نستنتج انه يتمحور حول قيمة فرح ملكوت الله والتحذير من إمكانية خسارته، وذلك من خلال ثلاثة امثالٍ: مثلا الكنز واللؤلؤة (متى 13: 44-45). ومثل الشبكة (متى 13: 47-50)

1) دعوة الى فرح قيمة الملكوت من خلال مثلين الكنز واللؤلؤة (متى 13: 44-46)

الفكرة الرئيسية في هذين المثلين هي الفرح العظيم في قلب الإنسان لدى اكتشافه ملكوت الله سواء اكتشفه عن طريق الصدفة كما هو الحال في مثل الكنز (متى 13: 44-45) او بحث عنه كما هو الحال فيمثل اللؤلؤة (متى 13: 45-46). ويكمن معنى المثلين في فرح الاكتشاف وهذا الاكتشاف يستحق كل التضحيات. فلا بد من الاستعداد الذي يؤهلنا لدخول في هذا الملكوت: وهو ان يكون الانسان مستعداً لبيع كل شيء في سبيله. الانسان في فرحه يعطي كل شيء. ومن ذاق من فرح ذلك الملكوت يفهم ان الكنز الحقيقي هو فيه، ويلتزم به من كل قلبه. فواجب بيع كل شيء للحصول على الملكوت، وقد وجّه يسوع هذين المثلين للتلاميذ وليس للجموع، أي لمن يريد أن يدخل في العمق حباً في المسيح وليس لأي شخص.

(أ) مثل الكنز

يقدم مثل الكنز قيمة الملكوت. والملكوت ثمين جدا لها وقيمة لا تضاهى، وهو المسيح. ولا يكفي العثور عليه، بل ينبغي شراؤه واقتناؤه، وقيمة الكنز تُعادل كلّ ما يمتلكه المشتري. إنّه شيء يُعادل الحياة بأكملها. وعليه فإن عثر عليه رجل فإنه يتطلب منه ان يضحي بكل شيء لكي يحصل عليه. ولا يحصل عليه بالمال بل بالتخلي عن المال والترفع عن الامور الارضية لكي ينفتح على المسيح. وهذا الانفتاح يتطلب ان يبيع المرء كل ما يملك لكي يحصل على كنز فرح الملكوت. وهذا ما فعله الرسل: “ها قد تَركْنا نَحنُ كُلَّ شَيءٍ وتَبِعناكَ”. فقالَ يسوع: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما مِن أَحَدٍ تَرَكَ بَيتاً أَو إِخوَةً أَو أَخَواتٍ أَو أُمَّا أَو أَباً أَو بَنينَ أَو حُقولاً مِن أَجْلي وأَجْلِ البِشارَة إِلاَّ نالَ الآنَ في هذهِ الدُّنْيا مِائةَ ضِعْفٍ مِنَ البُيوتِ والإِخوَةِ والأَخَواتِ والأُمَّهاتِ والبَنينَ والحُقولِ مع الاضطِهادات، ونالَ في الآخِرَةِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة.” (مرقس 10: 28-29). والعثور على الكنز يملأ الحياة فرحا.

إنّ ملكوت السماوات لا يُقدَّر بثمن، ومع ذلك فهو يكلّفُ تمامًا كلّ ما يملك المرء. لقد كلّفَ بطرس وأندراوس مجموعة من مراكب الصيد، وكلّفَ الأرملة فِلسَين (لوقا 21: 2)؛ وكلّفَ شخصًا آخر كأس ماء بارد (متى10: 42). فالله ينظرُ إلى القلب، الى نيّة الذي يقدّمُها وليس إلى الثروة الماديّة. هل نجد ما هو أسهل من ملكوت السماوات لنَكتسب، وما هو أثمن لنَمتلك؟ فلا تَكنِزوا لأنفُسِكم كُنوزًا في الأرض بلِ اكنِزوا لأنفُسِكم كُنوزًا في السّماء”(متى 6: 20).

آخرون يرون في المثل كإشارة عن الخاطئ الذي يبذل كل شيء ليقتني الخلاص وهذا ما فعله زكَّا العشار إذ لما رأى الربَّ ٌيمر في اريحا صعِدَ إلى شجرة الجميزة، لأنه كانَ قصيرَ القامة، فلمَّا رأى يسوعَ وجدَ النور. رآه وأعطاه كلَّ ما لَهُ، وكانَ من قبلُ يأخذُ ما ليسَ له. ولنا شهادة ايضا في حياة فرنسيس الا سيزي الذي قبْل موته بسنتين تألم كثيرا، فطلب من الرب النجدة. “وفجأة سمع صوتًا في روحه: “قل لي يا أخي: إذا أعطيت مقابل آلامك ومحنك كنزًا كبيرًا وثمينًا… ألن تفرح؟” (حياة القدّيس فرنسيس الأسيزي المعروفة بـ “مجموعة بيروجا” الفقرة 43.) ها إن الله قد أرسل على الأرض كنز رحمته، هذا الكنز الّذي يجب أن يُفتَح بواسطة الآلام، لينشر ثمن خلاصنا الّذي كان مخفيًّا فيه.

ويشير مثل الكنز المدفون أيضا الى دور المؤمن بالجهاد المستمر لاكتشاف المسيح “الكنز المُخفى في الحقل” والكنز المُخفي في حقل يحتاج لمن يفتش عنه، يتعب ويبحث باذلاً كل الجهد ليجد هذا الكنز. ومن اكتشف هذا الكنز يبيع كل شيء آخر حاسباً إياه نفاية، أي يستغنى بالكامل عن كل ملذات العالم إذ صارت في عينيه بلا قيمة، ويشترى الحقل أي يعيش لله فقط، كما فعل بولس الرسول ” إِلاَّ أَنَّ ما كانَ في كُلِّ ذلِكَ مِن رِبْحٍ لي عَدَدتُه خُسْرانًا مِن أَجلِ المسيح، بل أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ ” (فيلبي 7:3-8).

اما القديس أوريجانوس فيعلق “ما هو هذا الحقل إلا الكتاب المقدّس بعهديه الذي يحوي في داخله سرّ المسيح ككنز مُخفى لا يتمتّع به غير المثابرين بالحفر المستمر في الكتاب؟ لهذا يليق بالمؤمن أن يبيع كل شيء ليقتني هذا الحقل الحاوي للكنز، حقًا إن الحقل كما يبدو لي حسب ما جاء هنا هو الكتاب المقدّس الذي فيه زُرع ما هو ظاهر من كلمات من التاريخ والناموس والأنبياء وبقيّة الأفكار؛ أمّا الكنز المُخفى في الحقل فهو الأفكار المختومة والمخفية وراء الأمور المنظورة، الحكمة المَخفيّة في سِرّ، المسيح الذي “استَكَنَّت فيه جَميعُ كُنوزِ الحِكمَةِ والمَعرِفَة ” (1 قولسي 2: 3). الكنز يمثل مملكة المسيح واللؤلؤة هي شخص المسيح، من يفهم المسيح وعمل لأجله سيترك كل الماضي أي ما كان يؤمن به سابقا ليتبع المسيح.

(ب) مثل اللؤلؤة

يقدم لنا السيد المسيح تكلفة الملكوت وثمنه عن طريق مثل اللؤلؤة. يصف مثل اللؤلؤة إنسانًا خبيرًا يعرف قيمة اللآلئ فيفتش بجهد حتى يجد اللؤلؤة غالية الثمن. وقد كانت اللؤلؤة عند القدماء أجمل الحجارة الكريمة وأثمنها وأكثرها إثارة للتأمّل والإعجاب. اللؤلؤة الواحدة الغالية الثمن هي شخص المسيح. وإنَّه لا يستطيع أحدٌ ان يقتني السيد المسيح، اللؤلؤة الثمينة ما لم يبع ما يملك، كي يحصل على الفرح الذي يقدِّمه الملكوت. البيع ليس عملية حرفيّة، لكن انسحاب القلب نحو الله لاقتناء الملكوت. ويعلق العلامة أوريجانوس ” هذه اللؤلؤة التي من أجلها يترك الإنسان كل ما يمتلك ويحسبه نفاية: لكي يربح المسيح كما عمل بولس الرسول ” بل أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ” (فيلبي 3: 8)، قاصدًا بكل الأشياء اللآلئ الصالحة، حتى أربح المسيح، اللؤلؤة الواحدة غالية الثمن”

واما القديس غريغوريوس الكبير فيقول عن اللؤلؤة “فإن قورنت تلك العذوبة التي صارت له، لا يجد لشيء ما قيمة، فتتخلَّى نفسه عن كل ما اقتنته، وتبدِّد كل ما قد جمعت”. فيسوع هو اللؤلؤة الحقيقية الغالية الثمن، أماّ اللآلئ الحسنة هي العالم بملذاته. وهذا العالم لا شك لهُ إغراؤه وحلاوته وجذبه ولكن إذا اكتشفنا شخص المسيح سنكتشف في الوقت نفسه تفاهة كل ملذات الدنيا. إن ملكوت السماوي أثمن من كل شيء آخر يمكننا الحصول عليه، فيجب على من يريده ان يكون مستعداً للتضحية بكل شيء للحصول عليه.

اما القديس ايرونيموس فيرى في اللآلئ التي يبيعها الانسان إنما هي الطرق المتعددة التي يتركها ليدخل الطريق الوحيد الذي هو المسيح. “قِفوا في الطُّرُقِ وانظروا واسألوا عنِ المَسالِكِ القَويمة ما هو الطَّريقُ الصَّالِحُ وسيروا فيه فتَجِدوا راحةً لِنُفوسِكم” (ارميا 6: 16).

وعليه يدعونا يسوع من خلال هذين المثلين الى بيع كل شيء للحصول على فرح الملكوت خاصة ان المثلين يقعان في إطار تهديدين شديدين، التهديدي الأول “يَقذِفونَ بِهم (الأَثَمَةَ كافَّةً) في أَتُّونِ النَّار، فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان” (متى 13: 42)، واما التهديد الآخر فهو ” يَقذِفونَ بِهم في أَتُّونِ النَّار. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان” (متى 13: 50). هل ملكوت الله هو في نظرنا الخير الأسمى الذي يفوق كل الخيرات. وخلاصة القول ان المسيح هو الكنز، وهو اللؤلؤة. وقد كشف لنا عن ذاته بكل مَثلٍ رواه. ونحن به نمتلك الكنز الدفين ونصير اصحاب اللؤلؤة الكريمة.

2) دعوة الى التحذير من خلال مثل الشبكة (متى 13: 47-50)
يشبه مثل الشبكة مثل الزؤان، وهو مأخوذ من مشهد مألوف في حياة الصيادين في بحيرة طبرية في الجليل. والشباك تتفاوت في الحجم والتفصيل، ولكن الفكرة العامة، هي ان الشبكة تطرح عادة على مسافة قصيرة من الشاطئ، وتكون مثقلة في أطرافها بقطع من الحديد، وتدخل الاسماك فيها من كل جنس، ثم تقفل من جوانبها كلما اقتربت من الشاطئ.
يشدد مثل الشبكة (متى 13: 47-48) على وجود الأشرار والأبرار معاً حتى آخر الأزمنة. لا فصل بين الأبرار وبين الاشرار الا في النهاية الازمنة عندما تصل الشبكة على الشاطئ. وهكذا يكون الابرار والاشرار معا في الكنيسة. لكن مثل الشبكة لا يلفت الانتباه الى صبر المؤمنين، كما هو الحال في مثل الزؤان (متى 13/ 24-30)، بل الى التهديد الذي يتعرض له الأشرار في نهاية العالم من ناحية تحذير الابرار من هذا المصير.
فالبحيرة تمثل العالم، والمسيح أرسل تلاميذه ليكونوا صيادي الناس. والشبكة هي الكنيسة، وقد امسكت شباكهم أصناف شتى من أبناء الإنسانية من كل الأمم والألسنة من الابرار والاشرار ليكونوا في داخل جسده السري أي الكنيسة. والكنيسة ليس هي النهاية وضمان الخلاص. ويعلق القديس غريغوريوس الكبير ” تُقارن الكنيسة المقدّسة بشبكة، إذ هي أيضًا سُلِّمت إلى صيّادين، لقد ضمَّت كل أنواع السمك، إذ تقدّم مغفرة الخطيّة للحكماء والجهلاء، للأحرار والعبيد، للأغنياء والفقراء، للأقوياء والضعفاء. لهذا يقول المرتّل لله: “إ إليكَ يا مُستَمعَ الصَّلاة مساُر كُلِّ بَشَر (مزمور 65: 2). وفي نهاية الزمن يُفصل السمك الجيد ويحفظ، بينما يُطرح الرديء خارجًا، إذ يسلَّم الجيِّد للراحة الأبديّة. أمّا الأشرار، فإنهم إذ فقدوا نور الملكوت الداخلي يُطردون إلى الظلمة الخارجيّة. حاليًا هنا يختلط الصالحون مع الأشرار، كالسمك في الشبكة، لكن الشاطئ سيُخبرنا عمّا كان في الشبكة، أي في الكنيسة المقدّسة. إذ يُحضَر السمك إلى الشاطئ، لا تصير له فرصة التغيّر، أمّا الآن ونحن في الشبكة، فيمكننا إن كنّا أشرّارًا أن نتغيّر ونصير صالحين. إذن لنفكِّر حسنًا يا إخوة، إذ لا يزال الصيد قائمًا، لئلاّ يحتقرنا الشاطئ فيما بعد”.
فالشبكة المطروحة هي الكنيسة التي تدعو الجميع إليها، والخدام هم الصيادون والبحر إشارة للعالم كله، يدخل الكل للكنيسة، ولكن هناك من يجاهد لكي يكتشف شخص المسيح فيبيع العالم لأجله، وهناك من يجذبه العالم فيبيع المسيح لأجله، أي لأجل العالم، فمن باع العالم لأجل المسيح فهؤلاء هم الحنطة، ومن باع المسيح لأجل ملذات العالم فهؤلاء هم الزوان والشبكة ستُسْحَبْ للشاطئ يوم الدينونة. فالشاطئ يشير لنهاية الزمان يوم يترك كل الناس البحر أي العالم. هذا المثل يشبه مثل عُرس ابن الملك (مت 1:22-14) الذي دعا إلى عُرس ابنه كل الناس ولكن أخيرًا أخرج غير المستعدين ” لأَنَّ جَماعَةَ النَّاسِ مَدْعُوُّون، ولكِنَّ القَليلينَ هُمُ المُخْتارون (متى 22: 14). فتعليم الربّ يسوع هذا يجب أن يوقظنا من الغفوة ومن الأمان الزائف.
ومثل الشبكة كمثل الزارع والزؤان يتطلب منا ان نخبّر الآخرين بنعمة الله ووجوده ولكن ليس لنا ان نقول مَن هم مِن الملكوت (الابرار) ومَن ليسوا منه (الاشرار). فهذا التصنيف يتم في الدينونة الأخيرة. يذكر مثل الشبكة مصير الاشرار كي يدعونا بان نختار فرح الملكوت لا البكاء والدموع والنار.

وأخيراً يدعو يسوع تلاميذه ان يصيروا هم أنفسهم معلمين وكتبة (متى 13: 51-52) يُخرجون من كنز ما تعلموه من المسيح الذي وجدوه، وفي نفس الوقت يخرجون المعنى الصادق من كنز تعليم العهد القديم (متى 13: 51). فأسفار العهد القديم تعرفنا الطريق الى يسوع. اما اسفار العهد الجديد فتعلمنا عن المسيح نفسه الكنز واللؤلؤة على خطى اندراوس الرسول الذي لم يحتفظ بهذا الكنز لنفسه: بل انطلق مسرعًا إلى أخيه سمعان بطرس ليشاركه بالخيرات التي نالها. “وجدنا المسيّا، أي المسيح” (يوحنا 1: 41).

الخلاصة

الكنز مخفى في حقل مكشوف، ولكن اية منفعة فيه إن لم نبحث عنه كما ورد على لسان ابن سيراخ” الحِكمَةُ المَكْتومَة والكَنزُ الدَفين أَيُّ مَنفَعَةٍ فيهِما؟” (سيراخ 20: 30). فمن يريد الكنز، ليكن مستعداً لترك كل شيء وليبحث عنه فيجده. والكنز الحقيقي هو السيد يسوع المسيح الذي فيه نجد كل ما هو نفيس ونافع. وفيه يقول الرسول بولس ” جَميعُ كُنوزِ الحِكمَةِ والمَعرِفَة ” (1 قولسي 2: 3) كنوز البر والقداسة والنعمة والسلام، فان وجدناه كانت هذه كلها من نصيبنا. لذلك علينا ان نحسب كل شيء خسارة لكي نربح المسيح حتى نوجد في المسيح. نحن لن يمكننا أن نفرط فيما بين أيدينا من ملذات العالم ونبيعها، ما لم نكتشف أولًا هذا الكنز.

كذلك اللؤلؤة الثمينة هي يسوع المسيح. إنها لؤلؤة لا تقدر قيمتها فمن يطلبها يجدها ويشتريها بكل ما يملك يصيح غنياً فيما للربّ ويكون لديه ما يكفيه كي يكون سعيدا هنا والى الابد. سواء كان الاكتشاف قد تمّ بشكل عارض كما هو الحال في الكنز أو بعد بحث والطلب كما هو الحال في اللؤلؤة، ففي كلتا الحالتين نجد النتيجة واحدة، وهي أن الإنسان باع كلّ ما كان له ليشتري المسيح ن الكنز الحقيقي واللؤلؤة الثمينة.

اما مثل الشبكة الملقاة في البحر وجَمعَت مِن كُلِّ جِنْس فترمز التعايش بين الأخيار والأشرار هو واقع في ملكوت الربّ على الارض. إنّ الملكوت مفتوح لجميع الناس، منهم الأبرار ومنهم الأشرار، وسوف يستمرّ هذا الواقع حتى نهاية الأزمنة. وليس لنا أن نحكم أو ندين. ولكن لا يدخل في هذا الملكوت في السماء سوى أولئك الّذين قد تقيّدوا بالإنجيل وعملوا مشيئة الربّ في حياتهم. لن يأتي الفصل والمكافأة على أعمال كلّ فرد سوى في نهاية الأزمنة عند الدينونة الاخيرة، وهذا الفصل ليس من عمل الإنسان. بل هو من عمل الربّ.

دعاء
أيها الآب السماوي، اجعلنا نجد في يسوع ابنك الحبيب الكنز الثمين الذي يُغنينا، ونبحث عنه فهو، اللؤلؤة الثمينة فنكون من المستحقين دخول شبكة ملكوت الربّ الأبديّة ونجذب الآخرين اليها ونشاهد جميعا وجهك البهي في السماء. آمين.