مجيء الرب والسهر (مرقس 13: 33-37)

الأب لويس حزبون

الاحد الاول من زمن المجيء هو مطلع السنة الليتورجيا حيث يُذكّرنا أنّنا نعيش في الأزمنة الأخيرة؛ لان هذه الأزمنة تبدأ مع مجيء المسيح الأوّل بتجسّده في عيد الميلاد، وتكتمل في عودته الأخيرة يوم الدينونة. وهذا الزمن مكوَّن على الصعيد الليتورجيا من أربعة آحاد حيث يستعدّ فيه المؤمنون لمولد يسوع المسيح من ناحية، والى مجيئه الثاني في نهاية الأزمنة عند نهاية العالم ليدين الأحياء والأموات من ناحية أخرى. ويدلّنا مرقس الانجيلي كيف نعيش في استعداد لمجيء المسيح بالسهر الدائم والصلاة والانتظار للقاء معه (متى13: 33-37). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (مرقس 13: 33-37)
“فَاحذَروا واسهَروا، لِأَنَّكم لا تَعلَمونَ متى يَكونُ الوَقْت”:

تشير عبارة ” فَاحذَروا ” الى التيقظ والاستعداد والتأهب والتنبُّه والاحتراس، مما يتطلّب الانسلاخ عن الملذات والتعلق بالخيرات الأرضية “فاحذَروا أَن يُثقِلَ قُلوبَكُمُ السُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا، فَيُباغِتَكم ذلِكَ اليَومُ” (لوقا 21: 34). وقد قيل “احذر تسلم” من المخاطر. وأمَّا عبارة ” اسهَروا ” فتشير الى العدل عن النوم ليلاً. وتكرَّرت هذه العبارة أربع مرات مما يدل على التركيز على السهر وهو المعنى العام لهذا النص الإنجيلي. وقد يكون السهر بقصد مواصلة العمل (حكمة 6: 15)، أو لتحاشي العدوّ المفاجئ (مزمور 127: 1- 2). وأمَّا بالنسبة إلى المؤمن، فالهدف من السهر هو أن يكون مستعداً للقاء الرب عندما يجيء فجأةً. فالوصية إذن هي الاستعداد الروحي للقاء الرب. فالسهر إذا هو إعداد التدابير لمواجهة احتمال طول أمد انتظار عودة الرب ما دامت ساعة العودة لا يمكن توقّعها، “فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكم لا تَعلَمونَ اليومَ ولا السَّاعة”. (متى52: 13). نحن بحاجة للسهر في كل ساعة ودقيقة لئلا يفوتنا مجيء ابن الانسان. وفي هذا الصدد يحثُّنا القديس اسحق السرياني على ترك الكسل والجهاد في السهر، قائلًا: “النفس التي تمارس أعمال السهر وتتفوق فيها لانّ في إرادتها عينا الشاروبيم، بهما ترى في كل الأوقات الرؤى السماوية وتدنو إليها”. اما الكسل بالمفهوم الروحي فهو فقدان الإنسان الرؤيا الروحية السماوية، لأن سقف نفسه يتفكك، وتعجز يداه عن العمل الروحي، وينهار إنسانه الداخلي. أمَّا عبارة ” لا تَعلَمونَ ” فتشير الى مجيء المسيح الذي هو أمرٌ محتومٌ وإن لم نعلم ساعته. ان موعد مجي الرب هو الذي لا نعرفه على وجه التحديد إذ هو مخفي في علم الآب، حتى ان الابن نفسه في حدود تجسُّده التي قبلها طوعا، لا يشترك في هذا السر، وتخلى باختياره عن الاستخدام غير المحدود لقدراته الإلهية ويعلق القديس اوغسطينوس ” السيد المسيح لا يجهل اليوم إنما لا يعرفه معرفة من يبيح بالأمر “. لا يريد الانجيل ان ينتقص من مساواة الآبن للآب، ولكن العالم اليهودي يعلن ان الله وحده يعرف النهاية ويحدّدها، فجاء كلام يسوع يؤكد امتيازات الله الآب “لَيَس لَكم أَن تَعرِفوا الأَزمِنَةَ والأَوقاتَ الَّتي حَدَّدَها الآبُ بِذاتِ سُلطانِه (أعمال الرسل 1: 7). والبحث عن هذه المعرفة هو عائق للإيمان، لا مساعد له. المطلوب هو الاستعداد وليس الحساب. أمَّا عبارة ” الوَقْت ” فتشير الى اليوم والساعة كما ورد في انجيل متى ” فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكم لا تَعلَمونَ اليومَ ولا السَّاعة” (متى 25: 13) ثم يوضِّح في موضع آخر ان اليوم هو ذاك اليوم الي يأتي فيه الرب “لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ أَيَّ يَومٍ يَأتي ربُّكم. ” (متى 24: 42). ومن هنا نفهم ان ما يُطلب من المؤمن هو السهر الدائم. وليس هناك وسيله أنجع من ترك السيد المسيح الكنيسة بدون تحديد دقيق وقت رجوعه.

34″فمَثَلُ ذلكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ سافَرَ وترَكَ بَيتَه، وفَوَّضَ الأَمرَ إِلى خَدَمِه، كُلُّ واحدٍ وعمَلُه، وأَوصى البَوَّابَ بِالسَّهَر”.

تشير عبارة ” َ كَمَثَلِ رَجُلٍ سافَرَ ” (كَمَثَلِ باليونانية ὡς ومعناها يشبه) الى الحياة كرحلة سفر. ويدل الرجل المسافر على السيد المسيح، وهو صاحب البيت. أمَّا عبارة ” السَّفَر ” فتشير إلى رحلة الحياة. في هذا المثل، يسوع المسيح هو الذي سافر عند صعوده الى السماء عام 33مٍ بعد أن أتمَّ الفداء “لِيَحصُلَ على المُلْكِ ثُمَّ يَعود” (لوقا 19: 12). أمَّا عبارة “ترَكَ” فتشير الى تشديد النص على غياب السيد أكثر منه على مجيئه. والامر واضح أكثر في نص لوقا الموازي لهذ النص “كونوا مِثلَ رِجالٍ يَنتَظِرونَ رُجوعَ سَيِّدِهم مِنَ العُرس، حتَّى إِذا جاءَ وقَرَعَ البابَ يَفتَحونَ لَه مِن وَقتِهِم. طوبى لأُولِئكَ الخَدَم الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهم وَجَدَهم ساهِرين “(لوقا 12: 36 -37). أمَّا عبارة ” بَيتَه ” فتشير الى الجماعة أي الكنيسة في إنجيل مرقس. وهي أقدم كلمة نتحدّث فيها عن الجماعة. أمَّا عبارة ” خَدَمِه” فتشير الى المؤمنين. ولكل منا عمله ومسؤوليته ولكل منا مكانه؛ أمَّا عبارة “أَوصى البَوَّابَ بِالسَّهَر” فتشير الى التركيز على البوَّاب، لان وظيفته السهر وهو الذي ينبَّه الناس في الوقت المناسب. فمهمَّة البواب السهر، ويحّدد لوقا الإنجيلي مهمّة البوّاب أن يفتح الباب لسيّده عندما يعود، فيتمكن من الدخول إلى بيته(لوقا 12، 36)؛ وأمَّا مرقس الإنجيلي فيكلم الرومان فيرسم لهم صورة البوَّاب الذي يحرس منزل أحد النبلاء الرومان؛ وأمَّا متى الانجيلي الذي يكلم اليهود فقد أطلق على البوّاب اسم “الخادِمَ الأَمينَ العاقِل” (متى 24: 45). يضرب لنا يسوع مثل رب البيت ليساعدنا في تعريف السهر على انه لا يعني اهمال واجباتنا بل تأديتها بأمانة منتظرين من الرب أن يمتحن عملنا في يومٍ من الأيام كما يؤكد ذلك بولس الرسول ” سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد” (1 قورنتس 3: 13) ” لأَنَّه لابُدَّ لَنا جَميعًا مِن أَن يُكشَفَ أَمرُنا أَمامَ مَحْكَمةِ المسيح لِيَنالَ كُلُّ واحِدٍ جَزاءَ ما عَمِلَ و هو في الجَسَد، أَخيرًا كانَ أَم شَرًّا ” (2 قورنتس 5: 10).

35فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ متى يأتي رَبُّ البَيت: أَفي المَساء أَم في مُنتَصَفِ اللَّيل أَم عِندَ صِياحِ الدَّيك أَم في الصَّباح”:

تشير عبارة “فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ متى يأتي رَبُّ البَيت” الى ضرورة السهر الدائم مثل حراس الليل بدون إضاعة الوقت في البحت عن علامات نجدها لدى مسحاء كذبة وانبياء كذبة؛ أمَّا عبارة “أَفي المَساء أَم في مُنتَصَفِ اللَّيل أَم عِندَ صِياحِ الدَّيك أَم في الصَّباح “: فتشير الى هجعات الليل الأربع (كل قسم عبارة عن 3 ساعات) وفي كل هجعة يُبدّل الحرس وذلك بحسب التقسيم الروماني لليل. وقد قسَّم العبرانيون الليل (مدة الظلام) الى ثلاثة أقسام سمّوا كل قسم هزيعاً (هجعة) (خروج 14: 24). أمَّا الهزيع الاول فهو غياب الشمس الى منتصف الليل. والهزيع الثاني هو من منتصف الليل الى اول صياح الديك، والهزيع الثالث من صياح الديك الى شروق الشمس (لوقا 12: 38)، ولكن العبرانيون اقلعوا عن هذه التقسيم بعد عودتهم من السبي، إمّا بتأثرهم بالحضارة الفلكية فيما بين النهرين وفارس، او لسبب تأثر فلسطين بالحضارة اليونانية الرومانية. وكانت نتيجة لذلك أن أخذوا يُقسِّمون الليل الى أربعة اقسام كما الواردة أعلاه، ثم أخذ العبرانيون يُقسِّمون الليل بطوله الى الساعات الاثني عشر، حسبما نفعله اليوم (أعمال 23: 23).

36لِئَلاَّ يَأتيَ بَغتَةً فَيجِدَكُم نائمين.

تشير عبارة ” يَأتيَ بَغتَةً ” إلى عدم معرفة عودة يسوع، ولكن هذا لا يعني انه يجب ان يفاجئنا، بل يشدّد السيد المسيح على ضرورة بقاء المؤمن غير مكتوف اليدين، بل ساهراً ومستعداً ومنتبها الى علامات الملكوت في حياته وفي التاريخ، وأن يعمل بيقظة كي تصبح هذه العلامات حقيقة وواقعا في قلب العالم. ان حقيقة رجوع المسيح شخصيا هي حقيقة مقرَّرة ثابتة لا تحتمل التأويل. ومثل رب البيت يساعدنا في تعريف السهر على انه لا يعني اهمال واجباتنا بل تأديتها بأمانة على انتظار ان الرب يوما من الايام سيمتحن عملنا “سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد”(1قورنتس 3: 13).

37وما أَقولُه لَكم أَقولُه لِلنَّاسِ أَجمَعين: اِسهَروا.

تشير عبارة “أَقولُه لِلنَّاسِ” الى ن كلام يسوع موجّه الى التلاميذ الذين سينقلون تعليمات المسيح للجميع. اما عبارة ” أَقولُه لِلنَّاسِ أَجمَعين” فتشير الى ان هذا الأمر “اسهروا” لا يتعلق بذلك الجيل فقط، بل بكل جيل من أجيال الكنيسة المسيحية على مرِّ العصور. فقد يظن التلاميذ ان لبعض الناس وحدهم مسؤولية البيت، ولكن في الواقع كل واحد معني شخصيا. وما يطلب من المؤمن هو السهر، لان عليه يتوقف مستقبل البيت أي الكنيسة والجماعة المؤمنة.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 13: 33-37)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 25: 14-30)، نستنتج انه يتمحور حول أهمية السهر الذي يدعو السيد المسيح اليه في حديثه عن مجيئه الأخير ترقبًا للقاء معه، ومن هنا نتساءل كيف نعيش في السهر انتظارا لمجيء المسيح؟
كيف نعيش في السهر انتظارا لمجيء المسيح؟
ضرب لنا يسوع مثل رب البيت ليحُّثنا على السهر. لفظ سهر يفيد عدل عن النوم ليلاً. وقد يكون السهر بقصد مواصلة العمل (حكمة 6: 15)، أو لتحاشي العدوّ المفاجئ (مزمور 127: 1- 2). والمعنى المجازي هو اليقظة، والكفاح ضد الخمول والإهمال، من أجل بلوغ الغرض المستهدف (أمثال 8: 34). وأمَّا فيما يتعلق بالمؤمن فهو أن يكون مستعداً للقاء الرب، عندما يحلُّ يومه. ومن هذا المنطلق نستنتج أنه يوجد هنالك خمسة طرق في السهر انتظاراً لمجيء المسيح؟
الطريقة الاولى: الاستعداد:
السهر هو ان يكون المؤمن على أُهبة الاستعداد لعودة الرب: يوصي يسوع تلاميذه ويحثهم على اليقظة استعدادا لمجيئه الثاني. “فاسهروا إذاً، لأنكمٍ لا تعلمون أيّ يوم يأتّي سيّدكم” (متى 24: 42). فإنّ مجيء ابن الإنسان سيكون مفاجئاً، شأن مجيء لص الليل (متى 24: 43- 44)، ومثل السيد الذي يعود أثناء الليل دون إخطار سابق لخدمه (مرقس 13: 35- 36). والمسيحي شأنه شأن البوَّاب الأمين، ينبغي له أن يسهر، أي أن يمكث متأهّباً ويظل على استعداد لاستقبال الرب. ولا عجب ان يوصينا بولس الرسول على السهر: ” لَسْنا نَحنُ مِنَ اللَّيلِ ولا مِنَ الظُّلُمات. فلا نَنامَنَّ كما يَفعَلُ سائِرُ النَّاس، بل علَينا أَن نَسهَرَ ونَحنُ صاحون” (1 تسالونيقي 5: 1- 7). على المسيحي أن يظلّ في يقظة في مقاومة الظلمات رمز الشرّ، حتى لا يتعرّض لأن يدهمه مجيء المسيح الثاني، بل ان يكون مستعداً لاستقبال الخلاص النهائي كما يؤكد بولس الرسول “هذا وإِنَّكُم لَعالِمونَ بِأَيِّ وَقْتٍ نَحنُ: قد حانَت ساعةُ تَنبَهُّكمِ مِنَ النَّوم، فإِنَّ الخَلاصَ أَقرَبُ إِلَينا الآنَ مِنه يَومَ آمَنَّا”(رومة 13: 11).
فالجوهر هو السهر المتواصل استعداداً لمفاجأة سعيدة. وهذ المفاجأة تكمن في ان يصبح المسيح خادما “طوبى لأُولِئكَ الخَدَم الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهم وَجَدَهم ساهِرين. الحَقَّ. أَقولُ لكم إِنَّه يَشُدُّ وَسَطَه ويُجلِسُهُم لِلطَّعام، ويَدورُ علَيهم يَخدُمُهم.” (لوقا 12: 37). والسهر هو قرار خدمة وتركيز على مهمة. في بداية زمن المجيء علينا أن نكون مستعدين لمجيء ابن الانسان، “فيسوعُ هذا الَّذي رُفِعَ عَنكُم إِلى السَّماء سَيأتي كما رَأَيتُموه ذاهبًا إِلى السَّماء” (أعمال الرسل 1: 11-9)، وأن نكون مستعدين لهذا الحدث الذي غيّر وجه البشرية. ولواقع إن مجيئه الثاني هو أهم حادث في حياتنا، فنتائجه تبقى الى الابد، ولا يمكن ان نؤجل الاستعداد له لأننا لا نعلم متى سيحدث.
الطريقة الثانية: الحذر من التجارب اليوميّة:
لا يتطلب السهر الاستعداد بل أيضا المثابرة في الانتظار لعودة يسوع عن طريق الكفاح ضد التجارب اليومية. ويظهر يسوع نموذجاً بارزاً لليقظة في لحظة التجربة، بقدر ما يظهر تخاذل التلاميذ مُهملين توصيات معلّمهم: “إِسهَروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَة” (متى 26: 41). ويُردِّد لوقا الإنجيلي كلمات يسوع بقوله “احذَروا أَن يُثقِلَ قُلوبَكُمُ السُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا، فَيُباغِتَكم ذلِكَ اليَومُ” (لوقا 21: 34)، ولا يتردد القديس بطرس في الحث على الحذر إزاء أخطار الحياة الحاضرة بقول: ” كونوا قَنوعينَ ساهِرين. إِنَّ إِبليسَ خًصْمَكم كالأَسدِ الزَّائِرِ يَرودُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه ” (1 بطرس 5: 8).
فينبغي على المسيحي ان يكون دائماً على حذر، وأن يصلِّي بإيمان، وان يتجنَّب بتجرّده مكائد العدو الشيطاني وأعوانه. فانّ السهر الذي يطلبه السيد المسيح غايته هي يقظة القلب الداخلي كما جاء في سفر نشيد الأناشيد “إِنِّي نائِمَةٌ وقَلْبي مُستَيقِظ ” (نشيد الأناشيد 5: 2)، لذلك لا بد للإنسان المسيحي أن يكون على حذر وينتظر الربّ في السهر والصلاة لمقاومة التجارب. وانتظار الرب هو عمل الحياة كلها. دعوتنا ليست للإيمان فقط، بل للسهر بإيمان مرتقب. إنّ نوع الترقّب الّذي يقصده الربّ ليس طريقة سلبيّةً للحياة “الانتظار ورؤية ما يحدث” بل معنى السهر الذي ينادي به يسوع هو ان نيقظ قلوبنا من نومها، ونستفيق من غفلتنا، ونخرج من سكرة همومنا ونزاعاتنا وبحثنا عن السعادة الواهية والخادعة وراء المباهج الاستهلاكيّة والشهوانيّة “لِنَسِرْ سيرةً كَريمةً كما نَسيرُ في وَضَحِ النَّهار. لا قَصْفٌ ولا سُكْر، ولا فاحِشَةٌ ولا فُجور، ولا خِصامٌ ولا حَسَد” (رومة 13: 13). وحذّرنا الرب يسوع من ذلك من خلال مَثَل الرجل الغنيّ الذي يُطلب منه أن يؤدّي حساب نفسه خلال الليل، ومثل الخادم الّذي “أَخَذَ يَضرِبُ الخَدَمَ والخادِمات، ويأَكُلُ ويَشرَبُ ويَسكَر” (لوقا 12: 45)، ومَثَل ُالعذارى الجاهلات (متى25: 2).
الطريق الثالثة: الصَّلاةِ والدُّعاءِ في الرُّوح
يتطلب السهر أيضا الصَّلاةِ والدُّعاءِ في الرُّوح. ولقد تكلم مرقس الإنجيلي كثيرا عن الصلاة تقريبا 12 مره، فهو يوضح ان السهر يكون في سبيل الصلاة. فتمضية الليل في الصلاة السهر يتطلب ايضاً عقد سهرات الصلاة او السهرات الانجيلية “أَقيموا كُلَّ حينٍ أَنواعَ الصَّلاةِ والدُّعاءِ في الرُّوح، ولِذلِكَ تَنبَّهوا وأَحيُوا اللَّيلَ مُواظِبينَ على الدُّعاءِ” (أفسس 6: 18) اقتداء بما كان يفعله يسوع “وفي تِلكَ الأَيَّامِ ذَهَبَ إِلى الجَبَلِ لِيُصَلِّي، فأَحْيا اللَّيلَ كُلَّه في الصَّلاةِ لله” (لوقا 6: 12). ويُردِّد لوقا الإنجيلي كلمات يسوع بقوله “فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة، لكي توجَدوا أَهْلاً لِلنَّجاةِ مِن جَميعِ هذه الأُمورِ التي ستَحدُث، ولِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإِنْسان ” (لوقا 21: 36) والصلاة هي أولى صفات سيدنا يسوع: تكريسُ أربعين يومًا للصوم والصلاة والسهر. إنّ الصومَ يشفي الروحَ الضعيفة، والصلاة تغذّي النفس المتديّنة، والسهر يُبعِد مكائدَ الشيطان.
زمن المجيء هو دعوة إلى السهر والصلاة كما تقول كلمات الترتيلة “نحن ساهرون ومصابيحنا مشتعلة ننتظر عودتك أيها الرب يسوع”. ويخبرنا النبي أشعيا بأنّ الرب سوف يكافئ، بالتأكيد، أولئك الّذين ينتظرون افتقاده: ” مُنذُ الأَزَلِ لم يَسمَعوا ولم يُصْغوا ولم تَرَ عَينٌ إِلهاً ما خَلاكَ يَعمَلُ لِلَّذينَ يَنتَظِرونَه ” (أشعيا 64، 4).
الطريقة الرابعة: العمل بضمير حي
السهر والصلاة لا يكفيان بل يتطلب العمل الامر أن نعمل بضمير حي ما نعمله ضد العادات لكيلا تتحوَّل هذه العادات السيئِّة الى سبات عميق يُخدّرنا، ونقاوم التردد الذي يجعلنا ان نعيش ببطء كبير فنخسر قوتنا وديناميتنا؛ وان ان نعيش الانتظار بصورة جيدة بحيث لا يمضي يوم وشهر وسنة ونحن لا نعمل شيئا، بل كما قال البابا السابق بندكتس السادس عشر” نحن بحاجة إلى النهوض وإعادة اكتشاف معنى هدف كياننا”، وأخيرا ان نثق بالله ونتعلق به ونتمسك به فلا نجعل همومنا وانشغالنا تسيطر علينا.
وعندما نوجّه قلوبنا اليه تعالى، ونرفع نحوه همومنا وانتظارانا ومخاوفنا وقلقنا وهمونا وآلامنا، كل شيء يتَّخذ معناه. وبكلمة مختصرة يسوع يدعونا الى السهر” وما أَقولُه لَكم أَقولُه لِلنَّاسِ أَجمَعين: اِسهَروا. (مرقس 13: 37). لننتظر ونستعد لمجيء المسيح لقاء معه، ونحن نرنِّم مع صاحب المزامير ” كما يشْتاقُ الأيَلُ إِلى مَجاري المِياه كذلِكَ تَشْتاقُ نَفْسي إِلَيكَ يا أَلله” (مزمور 42: 2).
الطريقة الخامسة: اتباع تعليمات الرب
يقدم لنا انجيل مرقس في الفصل الثالث عشر بعض التعليمات ايضا للسهر انتظارا لمجي المسيح:
أولا ان لا نرتبك بدعاوي مضللة او تفسيرات باطلة لما سيحدث ” إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكم أَحَد. فسَوفَ يَأتي كثيرٌ مِنَ النَّاسِ مُنتَحِلينَ اسمي فيَقولون: أَنا هو! ويُضِلُّونَ أُناساً كثيرين.” (متى 13: 5-6)؛ لقد صرّح يوسيفوس فلافيوس المؤرخ اليهودي أن مزورين كثيرين وسحرة جذبوا إليهم كثيرين إلى البرية يخدعونهم، فمنهم من جنّ، ومنهم من عاقبه فيلكس الوالي الروماني ومن بينهم ذلك المصري الذي ذكره الأمير حين قال لبولس الرسول: “أفلست أنت المصري الذي صنع قبل هذه الأيام فتنة، وأخرج إلى البرية أربعة الآلاف الرجل من القتلة؟” (أعمال الرسل 21: 38)؛
ثانيا ان لا نخشى ان نبشّر الآخرين بالمسيح، رغم كل ما يمكن ان يقولوه او يفعلوه بنا “فخُذوا حِذْرَكم. سَتُسلَمونَ إِلى المَجالِسِ والمَجامِع، وتُجلَدون، وتَمثُلونَ أَمامَ الحُكَّامِ والمُلوكِ مِن أَجْلي شَهادةً لدَيْهِم” (متى 13: 9)؛
ثالثاً يجب ان نثبت في الايمان ولا نندهش من الاضطهاد “يُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجلِ اسمي. والَّذي يَثبُتُ إِلى النِّهاية، فَذاكَ الَّذي يَخلُص. ” (متى 13: 13).
ويا للأسف، كثيرٌ من النّاس يهزؤون من الدين علانيّة كما جاء في رسالة يهوذا “سيَكونُ في آخِرِ الزَّمانِ مُستَهزِئُونَ يَتبَعونَ شَهَواتِ كُفْرِهم (يهوذا 1: 18)، هؤلاء لا يسهرون، وهم لا يفهمون أنّهم مدعوّون ليكونوا “غُرَباءً نُزَلاءً في الأَرض” (عبرانيين 11: 13)، وأنّ ممتلكاتهم الأرضيّة ما هي إلاّ حوادث عابرة في تاريخ وجودهم، وبالتالي هم لا يملكون شيئًا. وليس هناك من شكًّ في أنّ من يعيشون بهذه الطريقة لن يتمكّنوا من أن يكونوا مستعدِّين لملاقاة الربّ عند مجيئه. وطلب منا الرب يسوع ألاّ نتحالف مع هذا العالم، بل ان نستعد بالسهر للقاء الرب؛ إنّه يأتي لكي نعرفه، ذاك الّذي لم يعرفْه أحد؛ لكي نؤمن به، ذاك الّذي لم يؤمنْ به أحد؛ لكي نخافه، ذاك الّذي لم يَخَفْه أحد؛ لكي نحبّه، أنّ هذا اللقاء لا يمكن أن يتمّ إذا لم نعش الحياة في الاستعداد والحذر والصلاة واتباع تعليمات الرب. لذا لنرنم مع صاحب المزامير “مِن رَحمَتِكَ يا رَبُّ اْمتَلأَتِ الأَرضُ فعَلِّمْني فَرائِضَكَ ” (مزمور 119: 64).

الخلاصة

حثَّ السيد المسيح تلاميذه على ضرورة السهر في انتظار عودته. ان السهر بمعنى اليقظة الواعية التي هي من مُتطلبات الإيمان بيوم الرَّب، وهي الطابع المميز للمسيحي الذي ينبغي له أن يقاوم الجحود في آخر الأزمنة، وأن يظلّ مستعدّاً لاستقبال المسيح الذي يأتي. ومن جهة أخرى، فما دامت التجارب في الحياة الحاضرة مقدّمة لويلات الدهر الآخر،

إنّ اليقظة المسيحية ينبغي أن تمارس يوماً بيوم في الكفاح ضد الشرير كما علّمنا السيد المسيح معلمنا في الصلاة الربيّة “ولا تُدخلنا في التَّجربة” (متى 6: 11). إذ يحاول الشيطان ان يُهلك فيها من تصيبه. فالسهر يتطلب من التلميذ الصلاة والقناعة المتواصلتين: “اسهروا وصلّوا وكونوا قنوعين”. ولنجهّز نفوسنا ليس للعيد بل لصاحب العيد، ولنعش حياتنا اليومية بروح متجدد وبمشاعر الانتظار العميق لمجيء الرب، انتظار مجيء مخلصنا يسوع المسيح في حياة كل واحد منا.

قد يمكن ان نمضي شهوراً للتخطيط للزواج او ولادة طفل او لتغيير العمل او لعقد خطوبة او لشراء منزل. فهل نهتم هذا الاهتمام بمجيء المسيح؟ فمجيئه ثانية هو أهم حدث في حياتنا، لأنَّ نتائجه ستبقى الى الابد، ولا يمكننا ان نؤجل الاستعداد له، لأننا لا نعلم متى سيحدث ذلك. “طوبى لِذلِكَ الخادِمِ الَّذي إِذا جاءَ سَيِّدُه وَجَدَه مُنصَرِفاً إِلى عَمَلِه (لوقا 12: 43)، فسوف يستطيع أن يشترك في موكب انتصار الرب.

ولنختتم مع تأمل البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني، بقوله: “فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكُم لا تَعلَمونَ أَيَّ يَومٍ يَأتي ربُّكم”. تُذكّرُني هذه الكلمات بالنداء الأخير الذي سيحلّ في اللحظة التي يريدها الربّ. أرغب في أن أستجيب لذلك النداء وأن يكون كلّ ما في حياتي على هذه الأرض سبيلاً لأستعدّ لتلك اللحظة. لا أعلم متى سيأتي ولكنّي أضع تلك اللحظة بين يَدَيْ والدة معلّمي يسوع المسيح، تمامًا كما أضع كلّ شيء بين يديها: “كُلّي لكِ”

الدعاء

أيها الآب السماوي، أيقظ قلوبنا وفكرنا كي نستعدّ لمجيء ابنك يسوع مخلصنا ودياننا، بالسهر والصلاة واتباع وصاياه حتى إذ جاء وجدنا فرحين بقدومه ومرحّبين بنور حقيقته. “كما تشتاق الأيل إلى جداول المياه، كذلك تشتاق إليك نفسي يا الله”.

قصة وعبرة: بازار السماء
بينما كنت في إحدى الأيام أسير في طريق الحياة، قرأت إعلانا فوق متجر يقول: “بازار السماء”. وما ان اقتربت من المتجر حتى انفتحت أبوابه وحدها ووجدت نفسي في الداخل. كانت الملائكة تملأ المكان. اقترب ملاك مني وقدّم لي سلّة كبيرة وقال لي: “تفضّل، اشتر ما تحتاج اليه”. كان المكان مليئا بمختلف أنواع البضائع. رأيت رفّاً مكتوباً عليه: “الصبر”، فأخذت حاجتي منه. رأيت “المحبة” في نفس المكان، فأخذت منها قسطا لا بأس به. سرت قليلا فرأيت مكان “التفهّم”، فقال لي الملاك: “خذ منها، فستحتاجها أينما ذهبت”. فأخذت منها علبتين. ثم تقدّمت أكثر فرأيت “الإيمان”، أخذت منه حصتين أيضاً. ثم “الروح القدس”، فأخذت منه الكثير. ثم فضيلة “القوة”، فلم أحرم نفسي، ثم “الشجاعة”، وأنا في أشد الحاجة إليها. بدأت سلتي تمتلئ، وتذكرت أني بحاجة الى “النعمة”، فأخذت، ثم إلى “المغفرة” وأخذت لي ولغيري.

أخيرا، وقفت في الصفّ لأدفع الحساب قبل أن أغادر المكان، فرأيت بجانب موظف الصندوق كميات كبيرة من “الفرح” و “السلام” و “الصلاة”، فحملت ما استطعت حمله. وعندما أتى دوري لأدفع ثمن ذلك سألت الموظف: “كم؟” فابتسم وقال لي: “احمل كل ذلك معك أينما ذهبت”. فألححتُ عليه: “قل لي كم يجب أن ادفع؟” فابتسم مجددا وقال: “يا بُنيّ، لقد دفع الله الحساب بدلا منك عندما تجسَّد وعاش في وسطنا وفداك ومات على الصليب وقام… هو نفسه سيعود ليجازينا على ما فعلنا بكل ما نلنا من نعم وبركات. ” فَاحذَروا واسهَروا، لِأَنَّكم لا تَعلَمونَ متى يَكونُ الوَقْت” (مرقس 13: 33).